الملك العاضّ أو العضوض لغةً: هو الملك الذي فيه عسف وظلم للرعية كأنه يعضهم عضاً، ومنه قولهم: عضتهم الحرب وعضهم الدهر، كنايةً عن الشدة.
امتد هذا الملك من أفول عهد معاوية -رضي الله عنه- على رأي غالب العلماء، قال ابن تيمية: "جرى بعد موت معاوية من الفتن والفرقة والاختلاف ما ظهر به مصداقُ ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "سيكون نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون مُلكٌ ورحمة، ثم يكون مُلكٌ عَضوض".
فكانت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم نبوة ورحمة، وكانت خلافة الخلفاء الراشدين خلافة نبوة ورحمة، وكانت إمارة معاوية مُلكاً ورحمة، وبعده وقع ملك عضوض"، وانتهى بسقوط الدولة العثمانية سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعين بعد الهجرة (1341هـ – 1922م) على أرجح الاستنباطات؛ ليبدأ بعده الحكم الجبري.
اجتمع المهاجرون والأنصار إثر وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- في سقيفة بني ساعدة؛ للتشاور فيمن يخلفه متمثِّلين خيرَ تمثّلٍ قولَ الله تعالى: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" [الشورى: 38]، فاستخلفوا أبا بكر مجمعين، قال ابن حجر في "فتح الباري": "قال ابن التين: إنما قالت الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير" على ما عرفوه من عادة العرب أن لا يتأمّر على القبيلة إلا مَن يكون منها، فلما سمعوا حديث "الأئمة من قريش" رجعوا عن ذلك وأذعنوا".
وعلى هذا السَّنَن كان تقلّد باقي الخلفاء الراشدين عمر وعثمان وعليّ، رضوان الله عليهم أجمعين، "فقبل أن تصير الخلافة إلى عثمان بن عفان استشار عبد الرحمن بن عوف الناسَ فيه وفي علي بن أبي طالب، وجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى ومجتمعين، سراً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقديم عثمان". ["البداية والنهاية" لابن كثير – بتصرف].
ثم تداعى صرح الشورى العظيم بعد مبايعة يزيد بن معاوية؛ إذ أخذ التوريث مكانها، ما شرّع الجَور وغيّب عن الناس ثقافة الأخذ على يد الظالم ومساءلة المجحف واجتباء الأمين، ودجّنهم على طاعة المتغلب بالجبر حيناً وباستخدام علماء البلاط في ليّ أعناق النصوص حسب الهوى حيناً وبالترغيب أحياناً.
قال أبو بكر -رضي الله عنه- في حديث مرفوع: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَؤونَ هَذِهِ الآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ)".
ومهم في المقام ذا الإشارةُ إلى أن معاوية -رضي الله عنه- لم يختر يزيدَ إلا لأنه رأى فيه الكفاءة بعد تمرسه في السياسة، ولخشيته أن يرفض أهل الشام خليفةً من غير بني أميّة فيحدث الشقاق في الأمة، قال ابن كثير في "البداية والنهاية": "ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان يظن أنه لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في الملك مقامه..".
وقد جاء في ذات الكتاب أن معاوية قال: "إني خفت أن أذر الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راعٍ".. "اللهم إن كنت تعلم أني وليته؛ لأنه فيما أراه أهل لذلك فأتمم له ما وليته، وإن كنت تعلم أني إنما وليته لأني أحبه فلا تتمم له ما وليته".
كذا جاء في "مقدمة ابن خلدون": "وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهد إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشا لله لمعاوية من ذلك".
لا ريب أن في الحكم العضوض خلفاءَ صالحين مصلحين مقسطين عدلوا بين الأنام وفتحوا الأمصار وبنوا مجداً لم تبلغ شأوَه أمجاد اللاحقين وشيدوا حضارة تنهل منها الأمم، فسطّروا تاريخاً مشرّفاً وخلّفوا أثراً طيّباً، لكن ما دام أساس الاستخلاف خاطئاً فسيؤول إلى خطأ، ففي التوريث يتقلّد الصالح والطالح ويستولي السديد والبليد، أما الشورى فكافلة بتأمير الأقدر وتنصيب الأجدر، وإن لم تُفلح يقع التبكيت على الشمل فيستدركوا الهنات ويثوبوا إلى الصواب.
إنّما الإسلام دين انعتاق من استعباد المخلوق إلى عبودية الخالق، وانفكاك من آصار المتعاظمين إلى رحمة العظيم، فلولا نعتبر بمن قبلَنا ونعي المقاصد ونأخذ الدين من مظانّه، ففيه الغُنية.
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.