التفتُّ في المقال السابق عن صقر قريش إلى لمحةٍ من حياة عبد الرحمن بن معاوية -ويجب عليَّ إذ تطرقت لهذا أن أعترف أنني قصّرت في كتابة الجزء الثاني ونشره، وأعتذر جد العذر عن هذا- تعرفنا في هذه اللمحة إلى يوم ترك أرضه وأهله وفر هارباً إلى العراق، ومنها إلى ليبيا، فالمغرب الأقصى، لكنه لم يأمن ساعةً؛ نظراً لنسبِه المعروف للدولةِ الأموية، إلا أنه لما ارتأى إلى استحالة وجوده في أرض من أراضي العباسيين أو شمال إفريقيا جاب الأرض ذكراً لحلم غائب، إذ كان هذا الحلم هو بلاد الأندلس.
لما رأى عبد الرحمن بن معاوية في بلاد الأندلس ملاذاً أخيراً لرحلته ومستوطناً لذاته، ولم لا وهي أرض الأندلس.. الأرض الذي لطالما حلم أن يطأها ويجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله فيها، فأرسل مولاه بدراً إليها، وكان رحمه الله رامياً، فارساً ليس بالطويل ولا بالقصير.. صليع الرأسِ، حصيف العقل، شجاعاً، مفوه اللسان، خطيباً صاحب كلمةٍ ورأي.. اختاره عبد الرحمن رسولاً له إلى من والوه في الأندلس يخاطبهم بلسانه ويشحذ هممهم ويستعديهم على يوسف الفهري، الذي انفصل عن الخلافة الأموية قبل سقوطها، وإلى يوم دخول عبد الرحمن إليها.
فخاطب اليمنيين وزعيمهم أبو الصباح اليحصبي، وخاطب العصبة المتبقية من بني أمية، وكان على رأسهم أبو عثمان عبيد الله وصهره ابن خالد، فجمعا له ما استطاعا تجميعه من رجالٍ؛ لتقوى شوكته بهم، وتحالفا مع زعيم اليمنيين، وغرهم في ذلك الأخذ بالثأر من يوسف الفهري، وحاولا أخذ العهد بالحلف من الصميل بن حاتم، زعيم القيسية، ولكنه أبدى تردده، واقترح مصالحة عبد الرحمن بن معاوية ويوسف الفهري وتزويج ابنة يوسف لعبد الرحمن، ثم لم يبدِ لهم بعد ذلك نيةً واضحة، وكانت جليةً نياته في أن تبقى الأندلس تحت إمرة يوسف الفهري، ذلك أن وجود خليفة أموي في بلاد الأندلس يُضعفُ شوكةَ القيسية، وهم عِمَاد حكم الفهري.
إذاً وحتى هذه اللحظة فالجزيرة الأيبيرية جاهزة ولو بنسبةٍ ليست بالقليلة لاستقبال عبد الرحمن بن معاوية، فسارع بدر مولى عبد الرحمن بإرسال أحد رجاله إلى مولاه يخبره بجاهزية الرجال في الأندلس لاستقبال الداخل الجديد، وكان الرسول يسمى بتمام، وكنيته أبو غالب، فاستبشر عبد الرحمن بن معاوية -رحمه الله- خيراً من اسمه، وقال تم أمرنا وغَلبنا بحول الله وقوته، ثم جهز السفينة التي نقلته وحده إلى بلاد الأندلس.
حال الأندلس:
كانت الأندلس وقتئذٍ تُذعن بالحكم ليوسفِ بن عبد الرحمن الفهري، وعاونه في توطيد الحكم الصميل بن حاتم، وكانا في عراكٍ دائمٍ مع اليمنيين الذين تعاقب زعماؤهم، إذ إنه كان المتفق عليه أن يتعاقب اليمنيون والقيسيون على الحكم في الأندلسِ عاماً بعد عام، ولكن يوسف الفهري أبى أن يسقط ملكه طائعاً لليمنيين، وعاونه في ذلك الصميل بن حاتم، وتقاتل اليمنيون مع المُضريين -القيسيين- في عدةِ معارك كانت الغلبة في آخرها ليوسف الفهري والصميل، وعلت شوكة الفهري وبزع نجمهُ عالياً في الأندلس، ولكنه لم يسلم من محاولاتٍ عدةٍ لكسرِ شوكته، إثر ثورات لم تهدأ.
وأدت هذه الفُرقة وهذا التشتت إلى سقوطِ كثيرٍ من الإمارات الإسلامية في جنوب فرنسا، وتكوين مملكة ليون على الشريط الحدودي مع الأندلس، وكانت خلافة يوسف الفهري هي خلافة مؤقتة لحين تعيين الخليفة الأموي أميراً جديداً لبلادِ الأندلس، ولكن الاضطرابات التي شهدتها الخلافة الأموية أواخر أيامها أدت إلى استقلال الفهري بالأندلس، ثم شهد ثورات عدة من كثيرٍ من حلفائه السابقين، ولكنه حطم رحاها إلى أن انتهى به الحال إلى إسقاط آخر الثورات في سرقسطة، تحت قيادة عامر بن وهب، إلى أن جاءته رسالة ولده وإشارته إلى الخطر الجديد في غرناطة.
دخول "الداخل":
ولج صقر قريشٍ عبد الرحمن الداخلِ -رحمه الله- الأندلس، وكان أميرها يوسف الفهري كعادته يقمع إحدى الثورات في الشمال، وكان حلفاؤه من اليمنيين والأمويين الفارين من الدولة العباسية إضافة للبربر وبقية المعارضين للفهري والي الأندلس.
كان المقر الرئيسي لأتباع اليحصبي إشبيلية، التي كانت وقتئذٍ واحدةً من أكبر حواضر الإسلام في العالم، فذهب إليها عبد الرحمن بنفسه، واجتمع بنخبة اليمنيين، حتى بايعوه، ثم أرسل هو الرسائل إلى يوسف الفهري يرقق قلبه، ويطلب منه تسليم الأندلس إليه، كونه واحداً من أولاءِ الذين سلموا له أرض الأندلس، لكنه كابر وجهز جيشه ليلتقي الجيشان في موقعة المصارة.
انطلق الجيشان في معركةٍ مهيبةٍ كان قوامُها جنوداً جلهم من المسلمين، فمن الشمال قاد يوسف الفهري جيشه نازلاً بأهل الجنوب وقائدهم عبد الرحمن وعصبة جيشه من اليمنية، ثم إنه كانت محاولات عدة لخرق صفوف ابن معاوية، منها من قال لليحصبي إن هذا الفتى غريب عن البلاد، فإذا هُزم فسيهرع إلى بلاده ويذرك والفهري، ثم قالوا خذ منه فرسه الأشهب حتى ينتهي القتال، فوافق عبد الرحمن على ذلك حتى لا يفرق جنوده، وفرغت المعركة إلى انتصار جيش الداخل ومن معه، وعلى غير العادة لم يتتبع المنتصر فلول المنهزمين، بل أمر عبد الرحمن بن معاوية جيشه بأن لا يستأصلوا شأفة أولاءِ الأعداء الذين يرجون يوماً صداقتهم، بل أمرهم باستبقاء عداوتهم لمن هم أشد منهم، وكان ذلك دليلاً على عمق فهم الشاب ذي الخمسة والعشرين عاماً، مما جعله بعد ذلك أول المؤهلين لإمارة الأندلس.
انطلق -رحمه الله- بجيشه حتى وصل إلى قصر الإمارة في قرطبة العاصمة الكبيرة لبلاد الأندلس، ولقب يومها بعبد الرحمن الداخل، ذلك لأنه كان أول من يدخل من الأمويين إلى قرطبة حاكماً حقيقياً، وليس مولياً لأحد أمرائه، وبهذا التاريخ الذي يوافق العام 138 ه، بدأ عهدٌ جديدٌ من عهد المسلمين في الأندلس، سمي بعصر الإمارةِ الأموية.
إذاً فكيف كان عصر الداخل رحمه الله؟ وما قصة اسم صقر قريش؟ ومَن سماه بها؟ هذا ما سنعرفه في الجزء الثالث والأخير من "عن صقر قريش"، والذي أعد قراءَ هذا الجزء بأني لن أتباطأ في إنهائه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.