من وصايا الشيخ الترابي: “احفظوا بذرة الخير حيّة بنفوسكم”

العظماء في كل مكان ينظرون بعين البصيرة الباصرة، يخترقون ظواهر الأشياء وينفذون إلى جواهرها، يرون مكنوناتها الخافية، النبي الكريم وهو يعود مثقلاً بالجراح من رحلة الطائف كان يرى خلف موات القرشيين من أهل مكة حياة نابضة خالفة، ذات القوم الذين أرهقوه طغياناً وكفراً يرجو أن يخرج من أصلابهم ولد صالح خير من الآباء زكاة وأقرب رُحْماً، والنصح الذي أسداه الشيخ الترابي لإحدى تلميذاته ذلك المساء كان يخرج من تلك المشكاة النبوية.

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/03 الساعة 03:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/03 الساعة 03:18 بتوقيت غرينتش

مظاهر الحياة هنا تبدو باهتة، فالعروق جافة، والاصفرار طاغٍ لا لون يغلبه، كلما أوغلت في هذا الطريق بعدت بك الشقة واتسعت الهوّة بينك وبين عوالم الناس! للحياة هنا قوانين مختلفة ومظاهر أخرى تكمن خلف صفرة الموت وتندس خلف القفر، اليباب، لكن مهما بدت الصورة قاحلة فثمة حياة، ثمة بذرة! إنما الطريق طويل.

عجيب أمر هذه البلدة! كأنما تعرضت لحادث جلل قوّض بنيانها ومزّق عُرى نسجها فصارت هباءً منثوراً. تلوح لك "قوز رجب" من بعيد كريشة في مهب الريح، وسط ذلك الفراغ العريض المقفر، المقبرة القديمة تكبر حجم البلدة بعشرات المرات، كأن هذه الأرض كانت ميداناً لمعركة ضروس هلك فيها من هلك فوارى الأحياء موتاهم وعادوا من حيث أتوا! من قمة الجبل النافر في الصحراء، حيث تأوي البلدة إلى سفحه، تبدو المقبرة كرقعة الشطرنج والبيوتات كأنها مشيدة في قعر بئر معطلة، كأنها تستجير بالجبل من نزق النهر المتقلب المزاج "سِتّيت" مياهه وأمواجه "تقعد وتقوم على كيفها" فهي تأتي كيف شاءت وتدع، إذا أظل هضبة الأحباش خريف ماطر تدافع الموج من علياء الربوة تصطخب مياهه اصطخاباً تدق الصخر في الشطين دقاً فتحيله ذرّاً وهو كثبان فهو تلال تعلو وتهبط يسميها السكان المحليون (الكَرَب) وسِتَيت مندفع لا يلوي على شيء حتى إذا انقطعت أمطار هضبة الحبشة صار وادياً يبساً يسير فيه الراعي راجلاً يتنقل من ضفة لأخرى، ذبلت الحياة الآن وجفت! ولكن الرعاة لا يقنطون ثمة دورة أخرى ينتظرونها ويعلمون أنها آتية وعداً غير مكذوب.

"وبماذا تنصح يا شيخ حسن؟" قالت امرأة في حضرة الروح السماوي المهيب، فتبسم ضاحكاً من قولها، ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ. خلف كل هذا اليباب والاضمحلال ثمة جذوة خابية، وهذه المرأة الضعيفة القويّة ما الذي جاء بها إلى هنا، وماذا هنا غير الابتلاء والتمحيص ومكابدة آل ياسر واصطبار إلياسين وأقدامٍ مُدمَاة ما تزال يحصبها سفهاء الطائف وغلمانها.. لو شاءت هذه المرأة أن تقوم غير هذا المقام لجاءتها الدنيا مختالة تجرجر أذيالها، تلقي خطامها بين يديها! لماذا يبدو الشيخ الترابي باسماً متهللاً رغم الجراح.؟ ولماذا يرفض النبي الكريم أن يأمر ملك الجبال فيطبق الأخشبين على أهل مكة؟!

آثار الاستعمار الإنجليزي هنا لا تزال ماثلة باقية بـ"قوز رجب" المدرسة وميس المعلمين، مبنى المركز الصحي وقباب تبدو كأنها محطة قطار قديمة ولا شيء بعد سوى اليباب وبضعة شخوص كأنهم يخرجون من الأجداث، سريعاً يقضون أوطارهم ويعودون إلى أوكارهم قبل حمأة الهجير، فإذا أظلم الليل سادت المكان جحافل ثعابين نادرة.

من قمة الجبل الغامض تبدو البلدة كأنها تربض في قعر بئر سحيقة، لكن رجلاً من قبائل شرق السودان يصر على مزاعمه: أن ثمة مطاراً قديماً كان خلف هذا الجبل الأشم. حينما نظرتُ ناحية أسراب العقبان الضارية، قال لن تصدق أنه كان هناك مطار حقيقي، لا مزيد من الرُّقي نحو القمة وإلا تخطفتنا هذه الطيور الجوارح أردف منذراً.

في طريق عودتنا إلى المعسكر وحينما كان دليلنا الشرقاوي يروي أساطيرَ عن الجن الذي يسكن الجبل ويخزن أطنان الذهب والفضة بمغارات سحيقة ويعاقب كل من يدنو منها، في تلك الأثناء كنت عبثاً أحاول اقتلاع نبتة "التّبس" الذابلة شديدة الاصفرار، فكرة الموت تتملكني بالكامل، عندما قطع الرجل روايته ليقول: "لا تحاول" في إشارة لاستحالة اقتلاع النبتة بالسهولة التي كنت أرجو وانتظر. "يابسة تجدها، لكن قلبها حي نابض بالحياة".

العظماء في كل مكان ينظرون بعين البصيرة الباصرة، يخترقون ظواهر الأشياء وينفذون إلى جواهرها، يرون مكنوناتها الخافية، النبي الكريم وهو يعود مثقلاً بالجراح من رحلة الطائف كان يرى خلف موات القرشيين من أهل مكة حياة نابضة خالفة، ذات القوم الذين أرهقوه طغياناً وكفراً يرجو أن يخرج من أصلابهم ولد صالح خير من الآباء زكاة وأقرب رُحْماً، والنصح الذي أسداه الشيخ الترابي لإحدى تلميذاته ذلك المساء كان يخرج من تلك المشكاة النبوية.

في "قوز رجب" تلك النقطة الباهتة بين مدينتي كسلا وعطبرة، على الضفة الشرقية لنهر سِتَيت تحت ذلك الجبل الغامض وسط ذلك اليباب القاحل حينما غالبتني شجيرة التبس اليابسة، وحينما علمت من أسرارها تذكرت حكمة الشيخ الإنجليزية.

قال دليلنا الهدندوي النحيل الهازل، العالم بأسرار البيئة والطبيعة من حوله: "إن هذه النبتة على حالتين: في فصل فيه يغاث الخلاء فتمطر السماء فتصبح مخضرة يانعة ثم تجيء عليها أيام شِداد يأكلن ينعها وبهجتها، فهي تُحصِن من أيام الرخاء ما تأكل في أوقات شدتها "نبتة التبس" اليابسة السيقان تغالب الحر والجفاف بأن تنكفئ إلى داخلها وتذخر طاقاتها جميعاً وتوظفها خلال فصل الصيف في أن تحفظ جذورها، رطبة وبذرتها حيّة، وتقصر جميع عوارفها على ذلك فلا تبين لها حياة على السطح، حتى إذا أظلها فصل الأمطار فجّرت طاقاتها الكامنة فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.

الإنجليز كأنما استلهموا حكمتهم من هذه النبتة الصحراوية التي تملأ الآفاق هنا فوق تلال الرمال في قوز رجب (Keep the seed alive) تمتمت مُرجِّعاً وحينما نظر إليّ الرجل الشرقاوي المهزول بعينين متسائلتين قلت له: "احفظ البذرة حيّة" فبدا أكثر حيرة وبينما كنا ننطلق عائدين وسط ذلك الخواء واليباب كان بالخرطوم حديث مشابه ينطلق.

قال الشيخ الترابي لرجل من أهل السلطان في حكومة الخرطوم: "كل الذي نرجوه منكم أن تحفظوا بذرة الخير حيّة بنفوسكم، عسى أن يأتي عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون"، حينما أطلت الحيرة من عيني الرجل أكّد مقالته بلسان أعجمي طلق:
"Keep the seed alive"

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد