من يلدز إلى تكسيم.. كيف روت وثائق الأرشيف العثماني قصة تقسيم المشرق العربي؟

القصة لا تبدأ معي في إسطنبول، وإنما غرب ذلك بقليل في سالونيك المقدونية (التي تعتبر ضمن اليونان الحالية) في أوائل القرن العشرين، وبالتحديد في الفترة منذ العام 1908 وحتى اندلاع حرب البلقان الأولى في العام 1912، حينما تعرضت المدينة للخطر، فتقرر نقل السلطان عبدالحميد الثاني من منفاه الإجباري إلى العاصمة إسطنبول، بعد أن كان كتب مذكراته في قصر سالونيك؛ المذكرات التي ترجمها الدكتور محمد حرب كانت أول ما قرأتُ عن تركيا وإسطنبول والعثمانيين، وكنت حينها تجاوزت عامي الثامن على كوكب الأرض "اللطيف" بقليل! وبالمناسبة أحب أن أقول شكراً لكل سكان الكوكب الأزرق الجميل، كان وجودي لربع قرن بينكم شيئاً لطيفاً! عمي كتب لي رسالة يوم مولدي مفادها (مرحباً بك على كوكب الأرض نرجو أن تكون رحلتك معنا جميلة) احتفظت بالرسالة أتأملها من حين لآخر، حتى ضاعت مع كل ما ضاع بعد الانقلاب، وفهمت لماذا تأثر السلطان عبد الحميد كثيراً بسرقة متعلقاته الشخصية من قصر يلدز.

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/27 الساعة 09:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/27 الساعة 09:14 بتوقيت غرينتش

القصة لا تبدأ معي في إسطنبول، وإنما غرب ذلك بقليل في سالونيك المقدونية (التي تعتبر ضمن اليونان الحالية) في أوائل القرن العشرين، وبالتحديد في الفترة منذ العام 1908 وحتى اندلاع حرب البلقان الأولى في العام 1912، حينما تعرضت المدينة للخطر، فتقرر نقل السلطان عبدالحميد الثاني من منفاه الإجباري إلى العاصمة إسطنبول، بعد أن كان كتب مذكراته في قصر سالونيك؛ المذكرات التي ترجمها الدكتور محمد حرب كانت أول ما قرأتُ عن تركيا وإسطنبول والعثمانيين، وكنت حينها تجاوزت عامي الثامن على كوكب الأرض "اللطيف" بقليل! وبالمناسبة أحب أن أقول شكراً لكل سكان الكوكب الأزرق الجميل، كان وجودي لربع قرن بينكم شيئاً لطيفاً! عمي كتب لي رسالة يوم مولدي مفادها (مرحباً بك على كوكب الأرض نرجو أن تكون رحلتك معنا جميلة) احتفظت بالرسالة أتأملها من حين لآخر، حتى ضاعت مع كل ما ضاع بعد الانقلاب، وفهمت لماذا تأثر السلطان عبد الحميد كثيراً بسرقة متعلقاته الشخصية من قصر يلدز.


شعوري بصدق الرجل في المذكرات وإخلاصه كان حاسماً، ثمة جلال وجمال نادر ينساب بين الكلمات المترجمة، وعلى كل حال في هذا العمر الصغير لم أكن أعرف ما هو معنى الكذب أصلاً! رسمت لوحة كاملة من التفاصيل الدقيقة التي ظلت محفورة بعمق في مخيلتي، وحينما زرت الأماكن نفسها بعد ذلك بسنوات طويلة، شعرت بالألفة للمكان والزمان والتفاصيل، الزمن في هذا المكان يستدير تماماً أكثر من موجات آينشتين، لكن شعوري الطفولي الأول بالدهشة من التفاصيل والصورة المتخيلة أعمق وأبلغ من شعور الألفة بالتفاصيل والصورة الحقيقية التي رأيتها أخيراً، الخيال دوماً أجمل من الواقع، حينما طلبت من الأستاذ موعداً أرسل لي يوم الخميس رسالة: Yıldız Hamidiye Camii الساعة الحادية عشر قبل الجمعة ولا تتأخر حتى لا نفوت الصلاة!




بحثت عن الجامع سريعاً، هو نفسه المذكور في المذكرات، الواقع أمام قصر يلدز مباشرةً، ذهبت في الموعد قريباً من البوسفور ناحية بشكتاش، وحينما دخلت الجامع الصغير المرتفع على التبة القديمة، تداعت أمامي الصور القديمة من المذكرات:

الديون في عهدي هبطت من 300 مليون إلى 30 مليون ليرة.
أنفقت من مالي الخاص على منكوبي الحرب الروسية.
مدحت باشا مستبد لكنه ينادي بالديمقراطية.
مدحت باشا لم يفهم من الديمقراطية إلا تقليد الغرب.
لن يقدروني حق قدري إلا بعد موتي.
لماذا لم ألجأ إلى الحرب لحل مسألة مصر وتونس؟
أعدائي من رجال "تركيا الفتاة" كلهم من المحفل الماسوني.
طريقة الغرب في فصل أجزاء الدولة العثمانية.
الصحف الأوربية ضدي.
سر سياستي.
الوضع المالي في الدولة.
اليهود يطلبون مني فلسطين.
الإنجليز يبحثون عن الآثار في العراق.
منعت الإنجليز من استخراج بترول الحجاز وسوريا.
جهاز مخابراتي: لماذا؟
أدخلت التلغراف بجهودي.
الفرق بين اليابان والدولة العثمانية.
عندما تكون القومية أعلى من الدين.
الضباط يسجنون خليفة المسلمين في قصر يهودي.
حرموني من قراءة الصحف.
الجيش دولة داخل الدولة.
أجبرت على التنازل عن ثروتي.
أملي مذكراتي من منفاي الثاني.
لم يهزمنا غير تدخل الجيش في السياسة.
كل ما يحزنني نكبة بلادي.
لا يمكن اتخاذ قرار سليم والمخابرات غير سليمة.
ليس لنا إلا الإيمان بالله!


مرت الصور أمامي سريعاً، بينما أقطع درجات السلم القليلة، استقبلني الأستاذ بحفاوة وترحاب، شربت الشاي أمام صورة السلطان نفسها المرسومة على غلاف المذكرات القديمة؛ تذكرت على الفور مكتبتي في مصر وكيف نالت منها الأحداث ولم يبقَ لي منها إلا الفتات! وبدأ حديث قصير قطعه ظابط أمن دخل المكتب الملحق بالجامع وقال بالتركية إن الرئيس سيأتي ليصلي الجمعة هنا بعد قليل! بعد دقائق دخلنا لمصلى الجامع الصغير وبدأ الإمام في خطبة ما قبل الجمعة ثم دخل الرئيس وجلس وصلينا الجمعة وسلمنا ودعونا بالقبول (ولا أريد أن استطرد هنا لأنها قصة أخرى) المهم أننا انصرفنا بعد فترة وأنا ما زلت متعجب من المصادفات العجيبة التي امتلأ بها هذا النهار!

تعرفت بعد الصلاة على أوميت (وتعني بالتركية الأمل) وهو شاب في منتصف العشرينيات أيضاً ومهتم بالتاريخ ويعمل بالأرشيف العثماني؛ دعاني لزيارته هناك وأرسل لي العنوان وبعض التفاصيل ولبيت الدعوة بعد أيام، وهناك تعرفت بأصدقائه العاملين في الأرشيف، وتجولنا في المعرض، وعزمنا على الغداء وأعطاني صورة طبق الأصل مترجمة ومغلفة ومطوية بعناية لإحدى الرسائل الموجهة من السلطان العثماني للملك الفرنسي خلال التحالف الفرنسي العثماني الذي امتد قرابة القرنين ونصف من الزمان قبل الحملة الفرنسية على مصر يعلمه بأنه أرسل مساعدات عسكرية ولوجيستية له من قبل الدولة العثمانية.



من قصيدة شوقي في مدح السلطان عبد الحميد:
سلِ الروم هل فيهِنّ لِلفُلكِ حيلة
وهل عاصِم مِنهُنّ إِلّا التنكُّبُ
تذبذب أُسطولاهُمُ فدعتهُما
إِلى الرُشدِ نار ثمّ لا تتذبذبُ
فلا الشرقُ في أُسطولِهِ مُتقى الحِمى
ولا الغربُ في أُسطولِهِ مُتهيّبُ
وما راعني إِلّا لِواء مُخضّب
هُنالِك يحميهِ بنان مُخضّبُ
فقُلتُ منِ الحامي أليث غضنفر
مِن التُركِ ضار أم غزال مُربّبُ
أمِ الملِكُ الغازي المُجاهِدُ قد بدا
أمِ النجمُ في الآرامِ أم أنتِ زينبُ
رفعتِ بنات التُركِ قالت وهل بِنا
بناتِ الضواري أن نصول تعجُّبُ
إِذا ما الدِيارُ اِستصرخت بدرت لها
كرائِمُ مِنّا بِالقنا تتنقّبُ

على وعد بزيارة خاصة للأرشيف، غادرت يلدز، ركبت التاكسي متوجهاً إلى تكسيم القريبة، بين يلدز وتكسيم يمكن أن تكتشف الملمح الأول من ملامح تقسيم المشرق العربي خلال الدقائق القليلة التي تفصل بين يلدز وتكسيم، يمكن أن تكتشف ملامح المفارقة التي تعيشها معظم مجتمعاتنا الإسلامية.. الانقسام العميق حول الإسلام والحداثة، المجتمعين المتعايشين في المدينة المسلمة منذ صدمة الاستعمار والحداثة وأسئلة الهوية الجديدة.. عالمين مختلفين يتقاسمان المجال المكاني والزماني ذاته في إسطنبول كما في المدن المسلمة كافة: ينتمي أولهما للتراث الإسلامي ومفردات من قبيل الطرق الصوفية والدولة العثمانية والمجاهدين والفاتحين والمساجد والأضرحة والقصور والجامعات الإسلامية والمصاحف والحجاب والبلقان والقوقاز والمنطقة العربية والمقدسات وأصول الفقه الحنفي والتزكية والكلام والأمجاد والفتوح الإسلامية، والآخر ينتمي للتحديث الأوروبي والفن الإيطالي والجامعات الحديثة ووسائل المواصلات والاتصالات ومعمار عصر النهضة والأنوار والمقاهي والملاهي والتحرر لتبدو معه إسطنبول كمدينة أوروبية خالصة تشبه باريس أو برلين وفيينا؛ بدأت الحوار مع سائق التاكسي:

جمعتكم مباركة يا عم
وأنتم كذلك
ما اسمك ومن أين أنت؟
اسمي أورهان من ريزا، كارادنيز (البحر الأسود)
أعرفها بالطبع ذهبت إلى سامسون من قبل، وهي ليست بعيدة كثيراً عن ريزا، ما رأيك هل البحر الأسود أجمل أم إسطنبول؟
أنا أحب الناس هناك في البحر الأسود، متدينون ومتواضعون وطيبون، لكن لا يوجد عمل كثير هناك؛ لذلك جئت للعمل في إسطنبول كسائق تاكسي كما ترى، وسأربي أولادي هناك وليس هنا.. الناس هنا مختلطون فيهم الجيد والسيئ..


في الخطوة الأولى للبحث عن وثائق تقسيم المشرق في الأرشيف العثماني لا يمكن ألا تلتفت إلى الانقسام المعنوي والرمزي والروحي السابق على التقسيم المادي والجغرافي والسياسي، تتجاور في المدينة الحالية كما في غيرها من المدن هويات مختلفة متعددة ومتعايشة ومنقسمة في الكثير من الأحيان، لا تبدو خطوط الانقسام على الخرائط فقط، بل الخطوط الحقيقية تبدأ في الأذهان والقلوب والتاريخ قبل الجغرافيا!

هذه التدوينة هي بداية للجولة، يتبع..

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد