تُعدّ حرب الاستنزاف من استراتيجيات الحرب التي تستهدف إضعاف العدو بشكل تدريجي عن طريق إجهاده واستنزاف موارده البشرية والمادية، بدلاً من الانتصار العسكري السريع.
وتعتمد هذه الاستراتيجية كما وصفها الدكتور عبد الوهاب المسيري مؤلف موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" إلى إنهاك العدوّ وإثقاله لدرجة اليأس فيُسلّم بالأمر الواقع ويُغادر بعد احباط مخططاته، وهي الاستراتيجية التي حذّر منها اللواء المتقاعد في الجيش الإسرائيلي إسحاق بريك أن تُعجّل بنهاية بلاده اسرائيل إذا ما استمرت فيها مع حماس و"حزب الله.
وقد أثبتت هذه الاستراتيجية فعاليتها في مختلف الحروب والصراعات التاريخية منذُ الحرب العالمية الأولى عام 1916، مروراً بمعركة ستالين غراد التي دارت بين يوليو/ تموز 1942 فبراير/شباط 1943،وحتى هزيمة الجيوش الفرنسية أمام الثوار الفرنسيين وإعلان استقلال الجزائر في الخامس من يوليو/تموز 1962.
فما هي أبرز المعارك والعمليات العسكرية التي شهدتها حروب الاستنزاف؟
وكيف ساهمت حرب الاستنزاف في تغيير موقف القوى لصالح المقاومة الشعبية أمام جيوش العدوّ؟
متى ظهر مفهوم حرب الاستنزاف؟
ظهر مفهوم حرب الاستنزاف لأول مرة بشكل بارز خلال الحرب العالمية الأولى، وتحديداً في عام 1916، عندما شهدت الحرب واحدةً من أطول وأشهر المعارك في تاريخها.
خلال هذه الفترة، عاشت منطقة فردان وبلدة السوم الواقعة شمالي فرنسا معارك طويلة ومكلفة للغاية، حيث واجهت القوات الفرنسية والبريطانية الجيش الألماني الذي كان قد توغل إلى عمق شمال شرق فرنسا، على بُعد حوالي 30 ميلاً من باريس لتتكبد كل من القوات الألمانية والفرنسية خسائر بشرية ومادية هائلة، حيث قُدرت خسائر معركة فردان وحدها بما يقارب مليون ضحية وفقاً لما ذكره موقع history extra .
وشكلت هذه الهزيمة نهايةً لمحاولات الألمان لتحقيق نصر سريع في فرنسا، حيث حفر الجانبان الخنادق، ما جعل الجبهة الغربية مسرحًا لحرب استنزاف طويلة وصعبة استمرت لأكثر من ثلاث سنوات.
معركة ستالينغراد واستنزاف الألمان في الحرب العالمية الثانية
تُعدُّ معركة ستالينغراد، التي دارت بين يوليو/تموز 1942 وفبراير/شباط 1943، أحد أبرز الأمثلة على استراتيجيات حرب الاستنزاف في التاريخ الحديث. فقد شكلت هذه المعركة نقطة تحول حاسمة خلال الحرب العالمية الثانية عندما تجسدت فيها استراتيجيات الاستنزاف من خلال إضعاف الموارد والقدرات البشرية للطرفين المتحاربين.
في شتاء 1941-1942، تمكنت القوات السوفييتية تحت قيادة الرئيس جوزيف ستالين من التصدي لهجوم ألماني استهدف الجزء الغربي من الاتحاد السوفيتي، والذي كان يهدف إلى الاستيلاء على موسكو. تكبد السوفييت خسائر كبيرة في الأرواح والأسلحة جراء هذا الهجوم، وبحسب موقع history ما زاد من تفاؤل الألمان بأن صمود السوفييت قد يوشك على الانتهاء.
ركز هتلر اهتمامه على مدينة ستالينغراد، التي كانت تشكل نقطة استراتيجية حيوية، فقد كانت المدينة مزودة للجيش الأحمر السوفييتي بذخائر المدفعية، ويمر عبرها نهر الفولجا، الذي يُعتبر ممراً ملاحياً مهماً يربط الجزء الغربي من الاتحاد السوفيتي بمناطقه الشرقية.
كانت التوقعات تشير إلى أن معركة ستالينغراد ستصبح واحدة من أكثر المعارك دمويةً في تاريخ الحرب العالمية الثانية. وهدّد هتلر بأن الاستيلاء على المدينة سيعني قتل جميع سكانها الذكور وترحيل النساء. في المقابل، أصدر ستالين أوامره لجميع السوفييت القادرين على حمل السلاح بالوقوف في الدفاع عن المدينة التي تحمل اسمه، ما أعطى المعركة طابعاً حاسماً وشديد الأهمية في سياق الحرب.
في 23 أغسطس/ آب 1942، وصل الجنود الألمان إلى شمال ستالينغراد وشرعوا في الهجوم على المدينة. بدأ الهجوم بالقصف الجوي المكثف، حيث استهدفت الطائرات الألمانية نهر الفولغا ومدينة ستالينغراد، ما حول جزءًا كبيرًا من المدينة إلى ركام ودمار.
كان هذا الدمار الواسع والقصف العشوائي أول خطأ استراتيجي ارتكبته القوات الألمانية في المعركة. حسب المؤرخ الفرنسي فرانسوا كيرسودي، مؤلف كتاب "ستالينغراد: نقطة تحوّل الحرب"، فإن "الدفاع عن مدينة مدمرة أسهل بكثير من الدفاع عن مدينة ما زالت مبانيها قائمة". وقد أدت الأنقاض إلى جعل مهمة الألمان أكثر صعوبة، حيث واجهوا صعوبات متزايدة في طرد القوات السوفييتية من مواقعها في ظل هذا المشهد المدمّر.
في ظل الدمار الواسع الذي أحدثه القصف الألماني الكثيف، أصدر جوزيف ستالين أمراً لجميع القادرين على حمل السلاح بالتوجه إلى ستالينغراد للدفاع عنها، وقامت النساء السوفييتات بحفر الخنادق على خطوط الجبهة، بينما تولى العمال مهمة القتال.
كان ستالين مصمماً على بقاء قواته حتى النهاية، وأصدر في 28 يوليو/تموز "الأمر رقم 277″، الذي حظر على الجنود مغادرة المدينة تحت طائلة المحاكمة العسكرية والإعدام المحتمل.
خلال المرحلة الأولى من المعركة، تمكنت القوات البرية الألمانية من التقدم داخل ستالينغراد، حيث سيطرت قوات الفيرماخت على 90% من المدينة، ولم يتبقى للسوفييت سوى منطقة ستالينغراد الصناعية في الشمال، وفقاً لتقرير موقع France24.
رغم خسائرها الكبيرة، نجحت القوات السوفييتية في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 1942 في تشكيل طوق دفاعي حول ستالينغراد، محاصرةً نحو 300 ألف جندي ألماني بحسب ما جاء في الموسوعة البريطانية.
بحلول فبراير/شباط 1943، تمكنت القوات السوفييتية من أسر حوالي 100 ألف جندي ألماني واستعادة السيطرة على المدينة، على الرغم من استمرار بعض جيوب المقاومة الألمانية في القتال حتى أوائل مارس/آذار.
توفي معظم الأسرى الألمان في معسكرات الاعتقال الروسية بسبب المرض أو الجوع، وكانت معركة ستالينغراد واحدة من المعارك الحاسمة التي أدت إلى تغيير مجرى الحرب لصالح الحلفاء.
شكّلت استعادة السوفييت لمدينة ستالينغراد أول اعتراف علني بالفشل من قبل هتلر. خلال المعركة، سقط أكثر من مليون و100 ألف جندي سوفييتي وحوالي 40 ألف مدني. من جانب قوات المحور، التي قادها الألمان، قُدر عدد الضحايا بنحو 800 ألف. وقد اعتبرت معركة ستالينغراد من بين أكثر 10 معارك دموية في القرن العشرين، حسب تصنيف موقع Army Technology.
حرب الاستنزاف التي شنها جمال عبد الناصر ضد الجيش الإسرائيلي
في ظل رفض إسرائيل تنفيذ قرار مجلس الأمن 242، الذي يدعوها للانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها بعد انتصارها السريع على العرب في حرب يونيو/حزيران من عام 1967، استؤنفت الأعمال القتالية على طول قناة السويس وامتدت إلى جبهات واسعة في غور الأردن وقطاع غزة والضفة الغربية وسوريا ولبنان.
بدأت الاشتباكات بقصف مدفعي وإغارات محدودة في سيناء، ولكن بحلول عام 1969، اعتبر الجيش المصري نفسه جاهزاً لعمليات واسعة النطاق. وفي 8 مارس/آذار عام 1969، أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر عن بدء حرب الاستنزاف رسمياً، والتي اعتبرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية أسوأ المعارك وغالباً ما يشار إليها باسم " حرب الألف يوم" حيثُ استمرّت من أغسطس/ آب 1969 حتى أغسطس/ آب 1970 على الجبهات السورية والأردنية والمصرية. وتميزت الحرب بقوتها النارية الثقيلة، كما شملت قصفاً مدفعياً شاملاً على طول قناة السويس، وحرباً جوية وبحرية، بالإضافة إلى غارات للصاعقة. رداً على ذلك، أنشأت إسرائيل خط بارليف وشنّت حرب استنزاف مضادة، مع تكثيف غاراتها الجوية ضد أهداف عسكرية ومدنية في العمق المصري.
انتهت حرب الاستنزاف في أغسطس/ آب 1970 بقبول مصر والأردن مبادرة روجرز ووقف إطلاق النار.
رغم أهمية حرب الاستنزاف، فإنها غالباً ما تُنسى عند تناول التاريخ العسكري الإسرائيلي، على الرغم من أن العديد من الجنود والقادة يعتبرونها واحدة من أصعب الحروب التي خاضتها البلاد، فقد تميزت بالقتال الشرس والمستمر، وهي استراتيجية تُعلّم أعداء إسرائيل أنها فعالة ضد جيش كان يتمتع بالعديد من المزايا.
كما كان لدور فصائل المقاومة الفلسطينية تأثير كبير في تلك الحرب، حيث ساهمت بشكل أساسي في تشتيت تركيز جيش الاحتلال وسببت له خسائر ملحوظة، خاصة على الجبهة الأردنية.
المقاومة الفيتنامية التي أجهضت المخططات الأمريكية
في عام 1968، واجه الثوار الفيتناميون هزيمةً كبيرةً في هجوم تيت، حيث تكبدوا خسائر جسيمة في البنية التحتية والعسكرية السريّة التي بنوها بعناء على مدار سنوات. رغم هذه الخسائر، كان هجوم تيت لحظةً محوريةً في سياق هزيمة الولايات المتحدة، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه الفيتناميون.
فمن جانبهم، قيّمت القيادة الفيتنامية نجاحاتها العسكرية بناءً على تأثيرها السياسي بدلاً من المعايير العسكرية التقليدية مثل عدد الخسائر البشرية أو المعدات أو السيطرة على الأراضي. كما أشار هنري كيسنجر في عام 1969 إلى هذه الفجوة بقوله: "لقد خضنا حرباً عسكريةً بينما خاض خصومنا معركة سياسية. سعينا للاستنزاف الجسدي، في حين أن خصومنا كانوا يهدفون إلى إضعافنا نفسياً. في هذه العملية، فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات: إن حرب العصابات تفوز إذا لم تخسر، بينما الجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر".
هزيمة الجيوش الفرنسية أمام الثوار الجزائريين
بدأت ثورة التحرير الجزائرية في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، بعد 124 عاماً من الاستعمار الفرنسي الذي بدأ في 1830، وانتهت بإعلان الاستقلال في الخامس من يوليو/تموز 1962، وشهدت الثورة سبع سنوات من الكفاح المسلح أسفرت عن استشهاد مليون ونصف المليون جزائري.
وكانت الثورة تتويجاً لمسار طويل من المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، بدءاً بمقاومة الأمير عبد القادر (1832-1847)، مروراً بمقاومة أحمد باي (1837-1848)، والشيخ بوعمامة (1871-1883).
وأدخلت جبهة التحرير الوطني أساليب جديدة لمواجهة الاحتلال الفرنسي واستنزافه، بما في ذلك حرب العصابات والضربات الفردية في المدن الكبرى مثل الجزائر العاصمة، التي شهدت ضربات مركزة على الأهداف الفرنسية ابتداءً من عام 1957.
واحدة من أبرز هذه المعارك كانت معركة جبل مونقورنو التي دارت في ديسمبر/كانون الأول ديسمبر 1958، حيثُ شهدت منطقة الزوبيرية غرب المدية معركة جبل مونقورنو التي أسفرت عن هزيمة كبيرة لقوات الاستعمار الفرنسي.
وبحسب ماذكرته وكالة الأنباء الجزائرية فقد أفادت بعض المصادر بتكبد جيش فرنسا الاستعمارية خلال هذه المعركة لخسارة فادحة في الأرواح تقدر ب900 قتيل, في حين تشير مصادر أخرى إلى مقتل 600 جندي فرنسي.
هذه الهزيمة نسفت مزاعم الجيش الفرنسي بكونه قوة عسكرية لا تقهر، كما أكد مجاهدون عاصروا الحدث وفق ما نقلته وكالة الأنباء الجزائرية، فبفضل عنصر المفاجأة، تمكنت كتائب جيش التحرير الوطني من إجبار قوات الاحتلال على التوقف عن زحفها نحو منطقة أولاد بوعشرة والدخول في معركة بجبل مونقورنو.