مرّت 11 عاماً على مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام السوري في ريف دمشق بتاريخ 21 أغسطس/آب 2013، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من ألف شخص، معظمهم من الأطفال الذين لقوا حتفهم خنقاً جرّاء إصابتهم بأعراض تنفسية واختناق جراء تعرضهم لغاز السارين.
ولا يزالُ السوريون يواصلون مطالباتهم بتحقيق العدالة للضحايا والناجين من المجزرة، التي تُعدّ من أكبر المجازر التي تعرض لها الشعب السوري على يد النظام منذ اندلاع الثورة عام 2011.
فما هي تفاصيل المجزرة الكيميائية التي ارتكبها النظام السوري في ريف دمشق في 21 أغسطس/آب 2013؟ وما هي المواد الكيميائية التي استخدمها النظام السوري في تنفيذ الهجوم؟ وما هي الإجراءات التي اتخذت للتحقيق في المجزرة وتقديم المسؤولين للعدالة؟
ماذا حدث في مجزرة الغوطة بريف دمشق عام 2013؟
وفقاً لتقرير أصدرته " الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فقد شنّ النظام السوري في ليلة الأربعاء 21 أغسطس/آب 2013 سلسلةً من الهجمات بأسلحة كيميائية على مناطق مأهولة بالسكان في الغوطة الشرقية والغوطة الغربية، تحديداً في بلدة معضمية الشام بمحافظة ريف دمشق.
واستخدم النظام خلال الهجمات ما لا يقل عن 10 صواريخ محملة بغازات سامّة، حيث يُقدَّر أن كل صاروخ يحتوي على 20 لتراً من الغاز، ليصل المجموع الكلي إلى 200 لتر.
تم إطلاق الصواريخ عبر منصات خاصة بعد منتصف الليل، واستُخدمت كميات كبيرة من غاز السارين. ويبدو أن الهجوم كان مدبَّرًا ومقصودًا لإبادة أكبر عدد ممكن من المدنيين أثناء نومهم، ما يقلل من فرص نجاة الضحايا، كما تشير مؤشرات درجات الحرارة تلك الليلة بحسب التقرير إلى انخفاضها بين الساعة الثانية والخامسة فجراً، ما أدى إلى سكون الهواء، وهو ما ساهم في بقاء الغازات السامة الثقيلة بالقرب من الأرض حيثُ تسببت في وقوع أكبر قدر ممكن من الضحايا.
وتعتقدُ الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن هذه الهجمات كانت جزءاً من خطة مدروسة تهدف إلى إحداث إبادة جماعية للمواطنين السوريين الذين طالبوا بتغيير النظام الحاكم وخرجوا عن سيطرته.
بالإضافة إلى ذلك، ساهم الحصار المفروض على الغوطتين الشرقية والغربية منذ نهاية عام 2012 في تفاقم الوضع، حيث منع الحصار إدخال الوقود والمحروقات والأدوية والمعدات اللازمة لعلاج المصابين.
أكبر استخدام للسلاح الكيميائي في العصر الحديث
ولم تكن مجزرةُ ريف دمشق أول مرّة يُستخدم بها السلاح الكيماوي ضد المدنيين، إلا أنها كانت ضمن أكبر استخدام للسلاح الكيميائي في العصر الحديث وخاصة بعد دخول اتفاقية حظر الأسلحة عام 1997 حيز التنفيذ،
فبحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان نتج عن الهجوم قتل 1144 شخصًا اختناقاً، بينهم 1119 مدنياً، منهم 99 طفلاً و194 سيدة، و25 من مقاتلي المعارضة المسلحة.
كما سجلت الشبكة إصابة 5935 شخصاً بأعراض تنفسية وحالات اختناق. تشكل هذه الحصيلة حوالي 76% من إجمالي الضحايا الذين قتلوا جراء الهجمات الكيميائية التي شنَّها النظام السوري منذ ديسمبر/كانون الأول 2012 حتى آخر هجوم موثَّق في الكبينة بريف اللاذقية في مايو/أيار 2019، وفقًا لقاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
مساعي لمُحاسبة النظام
بحسب تقرير لرابطة المحامين السوريين فقد قدمت "مبادرة العدالة" و"المركز السوري للإعلام وحرية التعبير" و"مبادرة الأرشيف السوري" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2020، في إطار مشروع "Mnemonic" الذي يهدف إلى توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، شكوى جنائية إلى المدعي العام الاتحادي الألماني ضد مسؤولين سوريين، وقد اتهمت الشكوى هؤلاء المسؤولين باستخدام غاز السارين في عدة مدن سورية.
وفي آذار 2021، عادت المنظمات الثلاث لتقديم شكوى مماثلة أمام قضاة التحقيق في فرنسا، تضمنت شهادات مفصّلة من العديد من الناجين من الهجمات الكيميائية التي شنها النظام السوري على مدينة دوما والغوطة الشرقية في أغسطس/آب 2013، وقد كانت هذه الشكوى الجنائية الأولى التي تُقدم ضد بشار الأسد في فرنسا فيما يتعلق بقضايا الأسلحة الكيميائية.
تلا ذلك بشهر واحد تقديم شكوى أخرى بالسويد لمحاسبة النظام السوري على استخدامه غاز السارين في هجومين، الأول على الغوطة الشرقية عام 2013، والثاني على خان شيخون عام 2017.
وأدت التحقيقات المتواصلة إلى إصدار 4 مذكرات توقيف في تشرين الثاني 2023، بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية والتواطؤ في جرائم حرب.
واستهدفت المذكرات حينها، إلى جانب بشار الأسد، شقيقه ماهر، وعميدين آخرين هما غسان عباس، مدير "الفرع 450" التابع لمركز الدراسات والبحوث العلمية السورية، وبسام الحسن، مستشار الأسد للشؤون الإستراتيجية وضابط الاتصال بين القصر الرئاسي ومركز البحوث العلمية.
وفي 26 يونيو/حزيران 2024، صدّق القضاء الفرنسي على قرار توقيف بشار الأسد بتهمة التورط في هجمات كيماوية في سوريا، رغم مطالبة مكتب المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب في فرنسا بإلغاء هذه المذكرة استنادًا إلى "الحصانة الشخصية" التي يتمتع بها رؤساء الدول خلال فترة توليهم المناصب.
إصرار على العدالة رغم التواطؤ الدولي
على الرغم من مرور سنوات طويلة على مجزرة الغوطة وحالة الإفلات من العقاب التي حمت النظام السوري من المحاسبة، لا يزال الناجون وعائلات الضحايا مصمّمين على متابعة مطلبهم في تحقيق العدالة وتعويض الضحايا.
ففي ذكرى المجزرة لعام 2021، قامت مجموعة من ذوي الضحايا والناجين من الهجمات الكيميائية بتأسيس "رابطة ضحايا الأسلحة الكيميائية". تهدف الرابطة إلى محاسبة القيادات الأمنية والعسكرية في النظام السوري على ارتكاب هذه الهجمات.
قبل تشكيل "رابطة ضحايا الأسلحة الكيميائية"، قام بعض أعضائها، ممن تضرروا من الهجمات الكيميائية، برفع دعاوى قضائية ضد النظام السوري. بعد تأسيس الرابطة، استكمل هؤلاء الأعضاء جهودهم القانونية، حيث ساهموا في تقديم الشهادات التي أدت إلى إصدار مذكرة توقيف بحق بشار الأسد وأعوانه من قبل القضاء الفرنسي.
إضافة إلى دورها في المجال القانوني، تسعى الرابطة أيضًا إلى التأثير السياسي، فقد قامت الرابطة بحمل القضية والترويج لها أمام كبار السياسيين. من أبرز أنشطتها، اللقاء الذي جمع أعضاء الرابطة بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أغسطس 2023، حيث قدموا له تفاصيل الجرائم التي ارتكبها النظام السوري وروسيا ضد الشعب السوري، بما في ذلك الهجمات الكيميائية.
توجهت بعض الدول والمنظمات الحقوقية إلى القضاء الدولي لمحاسبة المجرمين الذين ارتكبوا انتهاكات بحق مواطنين يعيشون في سوريا، في ظل فشل مجلس الأمن المتكرر في إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية بسبب "الفيتو" الروسي-الصيني.
وتجدر الإشارة إلى أن 108 دول وقعت على ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية في عام 1998، بينما لم توقع عليه دول أخرى مثل سوريا والعراق. بناءً على ذلك، لا تتدخل المحكمة في القضايا المرتكبة على الأراضي السورية. ومع ذلك، يمكن للمحكمة ممارسة سلطتها القضائية تلقائيًا على الجرائم المرتكبة في أراضي الدول الأعضاء أو من قبل أشخاص ينتمون إلى هذه الدول.
مطالبات بإنشاء محكمة استثنائية
مع تعذّر الوصول إلى محكمة الجنايات الدولية، دعت منظمات سورية غير حكومية في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 إلى إنشاء "محكمة استثنائية" لمحاكمة المتورطين في استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا، وجاءت هذه الدعوة في بيان صادر عن "رابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية".
في الذكرى الحادية عشرة لمجزرة الغوطة، نظم "الدفاع المدني السوري" بالتعاون مع حملة "لا تخنقوا الحقيقة" وقفة في مدرج حديقة مدينة إدلب يوم الثلاثاء 20 آب، لإحياء ذكرى الضحايا، رفع المشاركون لافتات تحمل شعار "المحكمة الاستثنائية مطلبنا حتى لا نختنق مرتين".
جاءت هذه المطالب من منطلق وجود سوابق لمحاكمات خاصة سابقة، مثل تلك التي أُقيمت لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا ورواندا وسيراليون، وكذلك في لبنان في قضية اغتيال رفيق الحريري.
ووفقًا للبيان، فإن المحكمة الاستثنائية المقترحة ستكون قادرة على النظر في جميع قضايا استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا وبقية القضايا التي لا تستطيع "الجنائية الدولية" التعامل معها حاليًا بسبب الجمود السياسي.
تجاهل الأسد لقرارات مجلس الأمن
في 27 سبتمبر 2013، اعتمد مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار 2118، الذي يهدف إلى تسريع عملية تفكيك برنامج الأسلحة الكيماوية للنظام السوري وضمان التحقق الصارم من تنفيذ الإجراءات المتعلقة به.
نصّ القرار على أن النظام السوري يجب أن يمتنع عن استخدام أو إنتاج أو تخزين الأسلحة الكيماوية، كما يحظر عليه نقل هذه الأسلحة بأي شكل من الأشكال إلى دول أو جهات غير حكومية.
ورغم ذلك، استمر النظام السوري في استخدام الأسلحة الكيماوية، حيث نفذ ما مجموعه 217 هجومًا كيماويًا على مختلف المناطق السورية من 23 ديسمبر 2012 حتى 7 أبريل 2024. أدت هذه الهجمات إلى مقتل 1514 شخصًا، بينهم 214 طفلًا و262 سيدة، بالإضافة إلى إصابة 11080 آخرين، وفقًا لما وثقته "الشبكة السورية لحقوق الإنسان".
عدم التزام النظام السوري بتعهدات إزالة الأسلحة الكيماوية
أكد المبعوث الألماني إلى سوريا، ستيفان شنيك، في 21 أغسطس/آب 2024، أن النظام السوري لم يفِ بتعهداته الدولية بشأن الإعلان عن كامل أسلحته ومنشآته الكيماوية وتدميرها.
وفي 11 يونيو/حزيران الماضي، اتهمت الخارجية البريطانية النظام السوري بإخفاء مئات الأطنان من المواد الكيماوية وعدم تنفيذ تعهداته لمجلس الأمن بتدمير الأسلحة الكيماوية.
كما أكدت آلية التحقيق المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وفريق التحقيق وتحديد الهوية التابع للمنظمة، أن النظام السوري استخدم الأسلحة الكيماوية، بما في ذلك السارين والكلور، ضد الشعب السوري تسع مرات بعد انضمامه إلى اتفاقية الأسلحة الكيماوية عام 2013.
وكان النظام السوري قد انضم إلى منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في سبتمبر/أيلول 2013، تحت تهديد الولايات المتحدة بشن عملية عسكرية ضده، وذلك بعد أقل من شهر من مجزرة الغوطة.