قرية سلمة، التي كانت تقع شرق يافا بخمسة كيلومترات، تحولت اليوم إلى جزء من حي كفار شاليم في تل أبيب اليوم. هذه القرية التي كانت تزخر بالحياة الاجتماعية والثقافية، تضم الآن مباني مهجورة وبعضها مسكون بأسر يهودية، تشهد على تاريخ طويل من الصراع والمقاومة للأسر الفلسطينية المهجرة.
مع إعلان قرار التقسيم من قبل الأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، تعرضت سلمة لسلسلة من الهجمات من قبل قوات الهاجانا التي استمرت لعدة أشهر، مما دفع سكانها للنزوح تدريجياً إلى المناطق المجاورة مثل رملة واللد. وقد كانت هذه الهجمات جزءاً من استراتيجية أوسع للسيطرة على يافا ومحيطها.
وفي نهاية أبريل / نيسان 1948، خلال عملية حمتز، تم الاستيلاء على القرية بالكامل من قبل القوات الإسرائيلية. عند زيارته، وجد ديفيد بن غوريون القرية خالية تماماً باستثناء امرأة عمياء واحدة. هذا التغيير الديموغرافي الجذري يعكس الصراعات العنيفة والنزوح الذي شهدته المنطقة خلال تلك الفترة.
رغم ذلك لم يقف الفلسطينيون سكان القرية متفرجين أمام هذه الأحداث كان رجال فلسطين قد نظموا أنفسهم في مقاومة الصهاينة وداعميهم.
قصة قرية سلمة وبداية الأزمة
حسب موقع "palestineremembered" سُميت قرية سلمة الفلسطينية تيمناً بالصحابي سلمة بن هشام المخزومي القرشي، كانت تقع إلى الشرق من يافا وتُحيط بها مستوطنات صهيونية من كل الجهات مثل مونتفيوري ورامات غان من الشمال، وكفار سركن من الشرق، وعزرا من الجنوب، ومستوطنة هاتيكفا من الغرب، هذه المستوطنات كانت مراكز لتدريب الهاغانا وأجرت عدة هجمات على سلمة، خصوصاً بعد قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر 1947، مما أدى إلى نزوح سكانها تدريجياً إلى مناطق مثل رملة .
مع تصاعد الهجمات الصهيونية، نظم أهالي سلمة مقاومة شرسة ضد العصابات المسلحة، حيث شكلوا ميليشيات محلية ودافعوا عن قريتهم ببسالة. في ديسمبر/ كانون الثاني سنة 1947، شنت الهاغانا هجمات فاشلة على القرية، ولكن المدافعين تمكنوا من صد الهجمات وحتى شن هجمات مضادة على مواقع صهيونية مثل بيتح تكفا.
بحلول أبريل/ نيسان سنة 1948، خلال عملية حمتز، تمكنت القوات الإسرائيلية من السيطرة على القرية بعد أن نزح معظم السكان بسبب الهجمات المتواصلة ونفاد الذخيرة. سلمة، التي شهدت مقاومة بطولية، تحولت فيما بعد إلى جزء من حي كفار شاليم فيما يعرف اليوم بتل أبيب، وما تزال آثار القرية شاهدة على تاريخها المعقد والأليم.
لجنة الدفاع في قرية سلمة الفلسطينية
في ظل الظروف الصعبة التي مرت بها قرية سلمة الفلسطينية، اجتمع أهالي القرية لتشكيل لجنة دفاع محلية لمواجهة التحديات المحيطة بهم. وقد تألفت هذه اللجنة من عدد من الشخصيات البارزة في القرية مثل مفلح علي صالح وموسى أبو حاشية، اللذان كانا في طليعة الجهود الدفاعية.
كما مثل العائلات الكبيرة في القرية كل من الحاج نجيب أبو نجم وعبد الرحيم حماد وحسن أبو عيد، الذين كانوا يعبرون عن تلاحم الأهالي وتصميمهم على الدفاع عن مجتمعهم.
منذ البدايات المبكرة لتشكيلها، نجحت اللجنة في تجنيد 30 من الشباب المحليين، مزودين بالبنادق وكميات محترمة من الذخيرة، بفضل دعم الشيخ حسن سلامة، القائد البارز في المقاومة الفلسطينية، الذي ساهم في تزويدهم بالأسلحة والعتاد اللازم.
بالتزامن مع الأعمال الدفاعية، واصلت اللجنة توسيع نطاق عملياتها بإرسال أمين سرها إلى القاهرة لجلب المزيد من الأسلحة، حيث عاد محملاً بـ60 صندوقاً من الذخيرة و30 بندقية من الطرازين الإنجليزي والألماني.
وبحلول إعلان قرار التقسيم في 29 نوفمبر/تشرين الأول 1947، كانت لجنة المقاومة في سلمة قد جمعت ترسانة متواضعة ولكن فعالة من الأسلحة، مما مكنهم من شن مقاومة شرسة استمرت لنحو خمسة أشهر ضد القوات الصهيونية.
فيما وصف عارف العارف، المؤرخ الفلسطيني، هذه المقاومة في كتابه "نكبة بيت المقدس والفردوس المفقود" بأنها كانت شديدة إلى درجة أن الرصاص كان يهطل كالمطر على المدافعين الذين لم يتزحزحوا عن مواقعهم رغم الصعاب.
رجال قرية سلمة والجيش البريطاني
في أواخر عام 1947، أظهر أهالي سلمة بسالة كبيرة عندما حذروا القوات البريطانية من المرور عبر بلدتهم متجهين إلى مطار اللد وقاعدة تل لتفنسكي العسكرية. وجاء هذا التحذير نظرًا لمعرفتهم بتنكر العصابات الصهيونية بزي الجنود البريطانيين لتنفيذ هجماتهم المباغتة على المقاومين الفلسطينيين.
ورغم الحاجة الماسة لهذا التحذير، إلا أن البريطانيين لم يأخذوه بجدية، مما اضطر المقاومين لاتخاذ إجراءاتهم الخاصة.
بعد يومين من تجاهل البريطانيين للتحذيرات، وفي 20 ديسمبر / كانون الأول 1947، هاجم المقاومون سيارة عسكرية بريطانية كانت تمر عبر سلمة، مما أسفر عن إصابة السائق واستيلاء المقاومين على بندقيته. رداً على هذا الهجوم، قام البريطانيون بشن هجوم مضاد على البلدة باستخدام دبابات وقوات مشاة، مطالبين بإعادة البندقية ودفع تعويضات مالية عن الأضرار التي لحقت بالسيارة، لكن المقاومين رفضوا الاستجابة حتى بعد اعتقال عدد منهم.
الوضع ازداد تعقيداً عندما قرر البريطانيون قطع الطريق الرئيسي المؤدي من يافا إلى مطار اللد، مما شكّل ضربة كبيرة للمقاومة لأن هذه الطريق كانت الوسيلة الرئيسية لوصول الدعم من القرى العربية المجاورة.
استغل الإسرائيليون هذا الإغلاق وشنوا هجوماً على سلمة من ناحية مستوطنة هاتيكفا، مسلحين بأسلحة رشاشة متقدمة. رغم هذه الهجمات، أظهر المقاومون شجاعة كبيرة واستطاعوا صد الهجمات، وحتى تغلبوا على العصابات الصهيونية في مواجهات مباشرة.
المقاومة البطولية لقرية سلمة
في نفس الفترة شهدت قرية سلمة الفلسطينية تطورات بارزة في مقاومتها ضد العصابات الصهيونية، حيث لم يقتصر الأمر على الدفاع، بل تحولت إلى هجوم مضاد استهدف مستوطنة هاتيكفا المجاورة. بكل بسالة، استطاع المقاومون طرد السكان وإشعال النار في المستوطنة، مع تدخل نساء القرية في الهجوم، مما يظهر الروح الجماعية والمعنويات العالية التي كانت تحدو المقاومين.
خلال هذا الهجوم، وفي موقف يعكس الأخلاق العالية التي ظهرت من قبل المقاومين، ترك اليهود خلفهم 26 طفلاً في حالة من الذعر، وقد عالج المقاومون هذا الوضع بإنسانية عالية حيث لم يتعرضوا للأطفال بسوء وسلموهم إلى القوات البريطانية التي نقلتهم بدورها إلى مستشفى.
تلا ذلك اندفاع مقاومون من اللد والعباسية لدعم أشقائهم في سلمة، حيث بدأوا في التقدم نحو المناطق التابعة لتل أبيب في يومنا الحالي، مما أدى إلى انتشار الذعر بين سكانها. النجاحات المبكرة للمقاومة أجبرت البريطانيين على التدخل لإنقاذ اليهود، حيث أصدروا تحذيرات للمقاومين بمغادرة هذه المناطق وهددوا باستخدام القوة العسكرية الكبرى، بما في ذلك القصف الجوي، مما اضطر المقاومة للانسحاب رغم الخسائر المتبادلة.
هذا الانسحاب، والذي جاء تحت ضغط الفارق الكبير في العتاد والسلاح، خلف استشهاد عدد من المجاهدين الفلسطينيين وفتح الباب للبريطانيين للعب دور الوسيط الذي أنقذ المناطق المحتلة من سقوط محتمل. ويعتقد العديد من المؤرخين أن لو حدث هذا لكان من الممكن تغيير العديد من معادلات النكبة، خصوصًا في يافا والمناطق الشمالية الغربية من فلسطين.
المقاومة وطلب الدعم لمواجهة الاحتلال
أظهر أهالي سلمة أواخر سنة 1947 مثابرة استثنائية في وجه العدوان الصهيوني، متحدين الدعم البريطاني الكبير، رغم ذلك، لم يخلُ يوم من المعارك العنيفة التي شهدتها البلدة، ومن بينها معارك حاسمة وقعت في 18 ديسمبر/ كانون الأول 1947 والأول و28 فبراير/ شباط 1948. وفي هذه المعارك، استخدم المقاومون تكتيكات حرب العصابات المتقدمة، مثل استدراج العدو إلى مبانٍ مفخخة ليفجروها عند دخول القوات الصهيونية، ما أدى إلى خسائر فادحة في صفوف العدو.
خلال معركة الأول من فبراير/ شباط 1948، شن الصهاينة هجومًا مفاجئًا من ناحية مستوطنة هاتيكفا، لكنهم لم يتمكنوا من تحقيق نجاح يذكر. بينما في 28 فبراير، تمكن المقاومون من إلحاق خسائر كبيرة بالقوات الصهيونية، حيث قُتل 15 جنديًا وتم الاستيلاء على أسلحة ومعدات عسكرية ثمينة.
مع تفاقم الصراع ونفاد أسلحة المقاومين، بذلوا جهودًا للحصول على الدعم من الهيئة العربية العليا في القاهرة، لكن للأسف، كان هناك تقصير كبير في تلبية احتياجاتهم، ما أثر سلبًا على الجهود العامة للمقاومة الفلسطينية. هذا التقصير دفع القائد عبد القادر الحسيني إلى الشعور بالإحباط الشديد، وقاد إلى استشهاده في معركة القسطل، وهو يحاول سد الفجوة في التسليح بين المقاومين والقوات الصهيونية.
الهجوم الإسرائيلي ونهاية مقاومة قرية سلمة
في منتصف أبريل/ نيسان 1948، واجهت سلمة هجومًا شديدًا استمر لمدة ثلاثة أيام من القوات الصهيونية، حيث قاوم المدافعون في البلدة ببسالة، محاولين صد الهجوم وشن ضربات مضادة على مستوطنة هاتيكفا باستخدام قذائف الهاون. لكن مع نفاد الأموال والدعم، وجد المقاومون أنفسهم بدون الذخيرة الكافية لاستمرار دفاعهم، مما أدى إلى تعقيد الوضع بشكل كبير.
بالتزامن مع هذه الأحداث، تعرضت مدينة يافا والقرى العربية المجاورة لضغوط شديدة وسقطت يافا بالفعل في يد الصهاينة في 25 أبريل/ نيسان 1948، مما أثر بشكل مباشر على معنويات المقاومين في المناطق المجاورة بما في ذلك سلمة. الخوف من المجازر الصهيونية دفع سكان سلمة إلى اتخاذ قرار الانسحاب وترك أراضيهم خلفهم، مما أدى إلى إخلاء البلدة بنهاية أبريل / نيسان 1948.
بعد انسحاب سكان سلمة، دخلت القوات الصهيونية البلدة بحذر، متوقعة مقاومة قد تكون مخبأة. وعلى الرغم من الانتكاسات، شارك أبناء سلمة في معارك لاحقة في العباسية واللد والرملة وحتى في معركة رأس العين، حيث استشهد القائد المحلي الشيخ حسن سلامة. بعد النكبة، تشتت سكان سلمة عبر مواقع متعددة في الضفة الغربية وغزة وحتى في الأردن والعراق.
تُعتبر تجربة سلمة خلال حروب النكبة مثالًا صارخًا على الصمود والمقاومة التي أظهرها الفلسطينيون في مواجهة التحديات الكبيرة، حيث كانت البلدة في نهاية الانتداب البريطاني تضم نحو 12 ألف نسمة وكانت مشهورة بنشاطها الوطني ومقاومتها الشديدة.