يواصل الجزائريون المطالبة بـ"الاعتراف والاعتذار والتعويض" من فرنسا عن جرائم مجازر مايو/أيار 1945 التي ارتكبتها خلال فترة الاستعمار الفرنسي (1830-1962)، وتشمل هذه الجرائم عمليات طمس للهوية، ونهب، وتعذيب، وقتل، وتجارب نووية.
واحدة من بين أكبر هذه المجازر وأبشعها تلك التي وقعت يوم 8 مايو/أيار 1945 والتي يطلق عليها الجزائريون تسمية مجزرة 8 ماي 1945، حين تجمع مئات الآلاف من الجزائريين للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وللمطالبة بالاستقلال من فرنسا، ولكن رد فعل القوات الاستعمارية كان بالرصاص الحي، وقد خلّفت هذه الجريمة النكراء أكثر من 45 ألف قتيل من بين المتظاهرين العزل وفقاً لما نشره موقع britannica، لتظلّ هذه الجريمة ضد الإنسانية محفورة في ذاكرة الشعب الجزائري وتذكّرنا بالمعاناة والظلم الذي تعرضوا له خلال فترة الاستعمار؛ وهو ما شكل منعرجاً حاسماً في مسيرة الشعب الجزائري من أجل الاستقلال.
مطالب الإستقلال قبل مجازر مايو 1945
تحضّر زعماء الحركة الوطنية الجزائرية للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية بمناسبة عيد العمال في 1 مايو/أيار 1945، انتشرت المظاهرات في مختلف أنحاء البلاد مثل الجزائر العاصمة، وهران، بجاية، تلمسان، وغيرها، حيث نظم الجزائريون تجمعات ومسيرات سلمية كوسيلة للضغط على الفرنسيين وإظهار قوة الحركة الوطنية ووعي الشعب بمطالبهم.
في الأول من مايو/أيار 1945، نجحت المظاهرات في كل أنحاء الجزائر، حيث طالب الجزائريون بإطلاق سراح مصالي الحاج واستقلال الجزائر، ورفعوا العلم الوطني الذي أُنتج خصوصاً لهذه المناسبة كما ذكر لنا موقع middle eestmonitor
كانت هذه المظاهرات سلمية، ولكن ادعى الفرنسيون اكتشاف "مشروع ثورة" في بجاية بعد مقتل شرطيين في الجزائر العاصمة، مما أدى إلى اعتقالات واستخدام القوة ضد الجزائريين.
صرخة الحرية في وجه الاستعمار الفرنسي
في يوم 7 مايو/أيار 1945، وضعت حركة "أحباب البيان والحرية"، التي أسسها فرحات عباس في 14 مارس/آذار 1944، اللمسات الأخيرة لتحضيرات المسيرة المقررة في اليوم التالي، للاحتفال رسمياً بالانتصار على ألمانيا النازية، لكنها في الحقيقة كانت توجه نداءً لتحرير الشعب الجزائري من ويل الاستعمار.
سمحت الإدارة الفرنسية بتنظيم المسيرة شريطة عدم رفع أي لافتات تحمل رموزاً للمطالب. وفي حدود السابعة صباحاً من يوم الثلاثاء 8 مايو/أيار 1945، تجمع آلاف المتظاهرين بالقرب من مسجد المحطة، حيث توافدوا من جميع أحياء المدينة والقرى المجاورة، بمناسبة يوم السوق الأسبوعي بسطيف.
وفي حدود الساعة الثامنة والنصف، انطلق الموكب وفي مقدمته من 200 إلى 250 شاباً من الكشافة الإسلامية الجزائرية بزيهم الرسمي، وأعناقهم مزينة بأوشحة تحمل اللون الأخضر والأبيض والأحمر.
"مسيرة 8 مايو 1945 في سطيف
بعد تعيين صديقهم سعال بوزيد لحمل الراية الجزائرية، انطلق الكشفيون في مسيرة تضم من 15 إلى 20 ألف متظاهر. فور الوصول إلى تقاطع شارع جورج كليمونصو (المعروف الآن باسم شارع 8 مايو 1945)، انضم مئات الأشخاص من ساحة باب بسكرة وأحياء أخرى في سطيف. بدأ الكشفيون في ترديد نشيد "من جبالنا" ورُفعت العديد من اللافتات التي تحمل شعارات مثل "تحيا الجزائر حرة مستقلة" و"تسقط فرنسا" و"حرروا مصالي".
مجازر 8 مايو 1945
شكّل الثامن من مايو/أيار عام 1945 منعطفاً حاسماً في تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية، حيث مثّل تمهيداً لثورة الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 التي أعلنت الإستقلال بعد سنوات من الكفاح المسلح.
ويؤكد الباحث كمال بن يعيش في كتابه "مجازر 8 مايو/أيار 1945.. سطيف المجزرة الجماعية" أن الحرية جاءت بثمنٍ باهظ، حيث كشفت الحقائق والشهادات الحية عن الأحداث التي شهدتها المنطقة. ومن اللافت للانتباه عدم وجود إحصاء دقيق لعدد الضحايا، حيث يواصل المستعمرون توريط الأرقام الحقيقية، بينما تشير تقارير الجزائريين إلى أن الأحداث أسفرت عن مقتل ما بين 45 ألفاً و100 ألف شخص، فيما تكبّد الجانب الفرنسي خسائر بلغت 88 قتيلاً و150 جريحاً.
ووفقاً لما جاء في الكتاب فإن المستعمِر لم يكتفِ بنتائج تلك المجزرة الوحشية. بل قام بإعلان الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد وألقى القبض على آلاف المواطنين وأودعهم السجون بحجة انتمائهم لمنظمات محظورة وقد لعب والي قسنطينة "ليستراد كاربونال" دوراً قذراً في مجازر 8 مايو/أيار، ورسم مخططاً تم التحضير له في مدينة برج بوعريريج، كما يشير الدكتور والمجاهد عمار بن تومي في كتابه "جريمة وعار"، إلى أن "أشرف الحاكم الفرنسي على تشكيل عصابات وميليشيات تعمل بشكل سري على قتل واعتقال وتعذيب الجزائريين".
سعال بوزيد أول شهداء المجزرة
في 7 من مايو/أيار 1945، علّق سعال بوزيد العلم الجزائري في "صفالو"، قبل المجازر بيوم واحد. في اليوم التالي، شهد العالم إحدى أكبر المجازر في تاريخ البشرية. بدأ سعال بوزيد يومه كالعادة، مبكراً للصلاة، ثم ارتدى لباساً نظيفاً وحلق شعره، وتوجه مباشرة نحو مسجد المحطة "أبي ذر الغفاري" للمشاركة في مسيرة الفرحة بانتصار الحلفاء على النازية.
حين حل موعد تنفيذ وعد فرنسا منح الجزائر الإستقلال، خرج الجزائريون رافعين شعارات تطالب بالاستقلال، وكان بوزيد يحمل العلم الوطني وسط فوج من الكشافة يرددون الأناشيد الوطنية لكن عندما تدخلت الشرطة الفرنسية، أمر رئيسها برمي بوزيد العلم، ولكنه رفض فأطلق الضابط الفرنسي الرصاص عليه وأسقطه شهيداً أمام الحشود.
تعالت زغاريد النساء الجزائريات، وتم نقل سعال بوزيد إلى المستشفى في محاولة لإنقاذ حياته، لكنه استشهد هناك وبدأت عمليات القتل الوحشية في حق الجزائريين، وتوسعت المظاهرات في سطيف.
فرنسا تأبى الاعتذار
ليست مجازر 8 مايو/أيار 1945 سوى جانب من جرائم فرنسا ضد الجزائر، فالاستعمار الفرنسي امتد ليشمل قتل وتعذيب وتهجير الشعب الجزائري وعلى الرغم من إقرار الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون بوحشية الاستعمار، فإن فرنسا تتجاهل الاعتذار للجزائر، ما يثير استياء اليمين الفرنسي وفي حين كانت تصريحات ماكرون هامة، إلا أنها ليست الأولى من نوعها، ولا تزال الجزائر اليوم تطلب اعتذاراً رسمياً وتحمل فرنسا مسؤولية تاريخها.
فمنذ عام 2022، تقوم لجنة مشتركة من مؤرخين جزائريين وفرنسيين بدراسة الفترة منذ بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر حتى استقلالها، بهدف فهم الحقائق التاريخية وتحقيق التسوية.
وفي مثل هذا السياق، تسلمت الجزائر في عام 2020 رفات بعض المقاومين الذين قتلوا خلال النضال ضد الاحتلال الفرنسي، لكن الجزائر ما زالت تنتظر إعادة "الجماجم الموجودة في المتاحف" والتي تعتبر جزءاً من ذاكرتها الوطنية
وفي مارس/آذار الماضي، أقرت الجمعية الوطنية الفرنسية قراراً يدين مذبحة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961.