في قلب الصحراء الجزائرية، حيث يحكم الصمت المطلق والهدوء العميق، تتكشف لوحة طبيعية تحبس الأنفاس، وسط هذه المساحة الهائلة من الرمال التي تصدح تحت الأقدام، يمكن للزائر أن يختبر معرضاً طبيعياً نادراً، حيث نحتت البراكين والقوى الطبيعية تشكيلات صخرية تتحدى الخيال بجمالها وإبداعها، مقارنةً بما يشاهد في أرقى معارض النحت المعاصرة.
على امتداد النظر في مدينة سيفار الجزائرية، تبدو السماء الصافية كأنها تلامس أرض الصحراء القاحلة في انسجام تام، مخلفة انطباعاً عميقاً بأن الأرض تضم السماء في حضنها، بينما تتنزل السماء لتمس الأرض بحنان. هذا المشهد، الذي كان يوماً ما موطناً لواحة خضراء زاخرة بالحياة في غابر الأزمان، يقدم شهادةً حيةً على التحولات المذهلة التي يمكن أن تشهدها الطبيعة عبر الآلاف من السنين.
مدينة سيفار الجزائرية وخرافات متنوعة
في قلب صحراء الجزائر تقع مدينة سيفار الأثرية، ضمن منطقة "طاسيلي ناجر"، أو "هضبة الثور" كما يُطلق عليها في لغة قبائل الطوارق التي سكنت هذه المنطقة منذ آلاف السنين. هذه السلسلة الجبلية، التي ترتفع وسط الرمال الذهبية للصحراء في الجنوب الشرقي للجزائر، تخفي بين ثناياها واحداً من أبرز الكنوز التاريخية: نقوشاً على جدران الكهوف تعود إلى عصور ما قبل التاريخ.
تلك النقوش البدائية ليست مجرد شهادات تاريخية، بل أصبحت محوراً للعديد من الشائعات والأساطير التي غذت الخيال الشعبي على مر العصور. صعوبة التنقل بين الدهاليز الضيقة والممرات الوعرة لجبال طاسيلي لم تفعل سوى إضافة المزيد من الغموض حول هذه المنطقة، حتى إن البعض ذهب إلى تصديق نظريات تفيد بأن كائنات فضائية أو حتى الجن هم من خلف هذه النقوش الغامضة.
ومن بين الحكايات المثيرة للفضول تبرز قصة الساحر والشاعر ومتسلق الجبال البريطاني، آليستر كراولي، الذي رُوي أنه زار طاسيلي برفقة مجموعة من أصدقائه لاستكشاف أسرارها العتيقة. وتحكي الأسطورة أن جميع من كان معه اختفوا في أعماق الصحراء، ليعود هو وحده، مضيفاً طبقة أخرى من الإثارة والغموض حول هذا المكان الفريد.
سيفار ضمن التراث العالمي لليونسكو
في تحول بارز على صعيد التراث العالمي، اعترفت منظمة اليونسكو بمنطقة طاسيلي ناجر كجزء لا يتجزأ من التراث العالمي في عام 1982، مُعلنةً عنها كأكبر "غابة صخرية" أو مدينة صخرية على الأرض، بمساحة تُقدر بأكثر من 89 ألف كيلومتر مربع.
اليونسكو بتوثيقها لهذا الموقع أبرزت القيمة الفنية والتاريخية العظيمة التي تكمن في أكثر من 15 ألف رسم ونقش بدائي، تزخر بها جدران كهوف المنطقة، ما يقدم لنا رؤية نادرة عن حياة وتطور الإنسان القديم.
الجيولوجيا المعقدة والعريقة لطاسيلي ناجر، التي يعود تاريخها إلى الباليوزويك ما بين 550 و370 مليون سنة، تحكي قصة الأرض في أقدم حقباتها. وتسجل النقوش المكتشفة على جدرانها التغيرات المناخية الكبرى وهجرات الحيوانات، بالإضافة إلى تطور الحضارة البشرية قبل حوالي 8000 سنة، مُظهرةً كيف كان الفن وسيلة للتعبير والتواصل لدى أسلافنا.
ما يميز نقوش طاسيلي في مدينة سيفار عن غيرها من المواقع حول العالم هو استمراريتها وتجددها عبر الزمن، ممتدة من العصور القديمة وحتى القرون الأولى للميلاد. الجانب الديني والسحري الذي كرس له السكان الأقدم للمنطقة معظم نقوشهم يعد الآن مصدراً غنياً لدراسة الديانات قبل التاريخ، خصوصاً في فترة "الرؤوس المستديرة"، التي تتضمن رسومات لأشخاص برؤوس مستديرة قد تُفسر خطأ على أنها تمثل الفضائيين أو الجن، نتيجة لنقص الدراسات المفصلة.
رغم تلك الأساطير والخرافات، تبقى الدراسات الموثقة التي تناولت نقوش طاسيلي بالتحليل والفهم ذات قيمة علمية بالغة، إذ تمكنت من تقديم نظرة دقيقة ومعمقة حول الحضارات التي عاشت في هذه الأرض القديمة، خصوصاً خلال العصر الحجري الحديث.
مع اكتشافات الفرنسي هنري لوت في عام 1969، والتي أظهرت للعالم هذا الكنز الأثري، بمساعدة السكان الأصليين، وخصوصاً "جبرين" من قبائل الطوارق، تأسست حظيرة وطنية في عام 1972، بهدف حماية وصيانة هذه المنطقة. وحتى عام 2020، أعلنت الحكومة الجزائرية عن تسجيل ما يزيد عن 17 ألف موقع أثري في إقليم طاسيلي "مدينة سيفار"، ما يؤكد على أهميتها العالمية والثقافية العميقة.
الرسومات والطقوس الدينية الغريبة
بينما تثير الشائعات والتفسيرات السطحية الفضول الشعبي حول نقوش الرجال ذوي الرؤوس المستديرة في كهوف طاسيلي، اعتبر الباحثون هذه الصور إشارات إلى طقوس دينية وروحانية معقدة. هذه الرموز، التي قد تبدو غريبة للعين المعاصرة، تشير في الواقع إلى عقائد إيمانية عميقة للبشر الأوائل الذين استوطنوا سيفار ومنطقة طاسيلي عموماً.
تعكس هذه النقوش فهمًا متقدماً للرمزية الدينية، مشابهاً للتقاليد المصرية القديمة التي تصور الرجال يرتدون أقنعة الحيوانات في طقوس التحنيط، لا سيما قناع ابن آوى المرتبط بأنوبيس، إله الموتى. هذه الممارسات لم تكن تعبيراً حرفياً عن الواقع، بل كانت ترمز إلى مفاهيم روحانية عميقة، مثل إرشاد الأرواح في العالم الآخر.
طقوس الموت والدفن في موقع طاسيلي في مدينة سيفار الجزائرية، كما يكشف البحث، كانت تحمل أهمية بالغة وتُظهر اهتماماً معقداً بالحياة الآخرة. الدراسات التي أجراها الباحثون عن المدافن في المنطقة، بما في ذلك الجثث المدفونة بوضعيات محددة والمقابر المزودة بأثاث جنائزي، تشير إلى وجود عقيدة دينية راسخة وممارسات جنائزية مفصلة.
مثل هذه الاكتشافات تدعم النظرية التي تقول إن الرسومات في كهوف طاسيلي لم تكن مجرد فنون بصرية، بل كانت تعبيراً عن معتقدات وطقوس دينية معقدة. يُظهر هذا كيف أن فهم الفن الصخري لا يقتصر على تقديره الجمالي فحسب، بل يتطلب أيضاً فهم السياق الثقافي والروحي الذي أنتجه.
بينما قد يجد البعض تفسيرات بسيطة في الخرافات أو الأساطير، يكشف التحليل العلمي والأكاديمي عن طبقات من المعنى والتقاليد تعكس تعقيد الفكر البشري وعمق الروحانية لدى الحضارات القديمة.
في سياق الاستكشافات المستمرة لأسرار مدينة سيفار، لم تقتصر الكشوف على الجوانب الدينية والروحانية وحدها، بل تعدتها لتشمل إسهامات حضارية قديمة في مجال صناعة الأدوات. يشير الأثريون إلى الفترة المعروفة بـ"الأشولينية" خلال العصر الحجري القديم، حيث أبدع الإنسان القديم في تشكيل الأدوات الحجرية بأشكال متنوعة، وكان لسكان سيفار دورهم في هذه الحضارة من خلال إسهاماتهم في تصنيع هذه الأدوات.
تطورت منطقة طاسيلي لتشهد مرحلةً حضارية أخرى يعرفها الأثريون بالحضارة الموستيرية، التي تعتبر من ركائز العصر الحجري القديم الأوسط. هذه المرحلة شهدت تصنيع أدوات من الشظايا الحجرية الناعمة والمشذبة بدقة، على نقيض الأدوات الآشولية الأكثر استدارة أو بيضاوية، واستخدم سكان المنطقة هذه الأدوات في مهام متعددة مثل القطع والخدش. ولم يقتصر انتشار الحضارة الموستيرية على طاسيلي فحسب، بل تعدتها إلى آسيا وأوروبا، وبدرجة أقل في شمال أفريقيا.
بالإضافة إلى ذلك، تؤكد الدراسات على وجود ثقافة العاترية ضمن الحضارات التي أثرت في طاسيلي، وهي تعود للعصر الحجري الوسيط، وتميزت بوجودها في شمال أفريقيا، من موريتانيا إلى مصر. استغل سكان طاسيلي في هذه الفترة مواد مثل الكوارتز والأحجار البركانية لإنتاج أدواتهم، ما يعكس تطورهم التقني والحضاري عبر مختلف العصور.
سيفرا.. قلب الصحراء الجزائرية التاريخي
كشفت الدراسات الأثرية عن شبكة معقدة من التواصل والتجارة بين شعوب ما قبل التاريخ، مؤكدةً أن هذه المجتمعات لم تعش في عزلة. أحد الأدلة القوية على هذا التفاعل هو العثور على أدوات حجرية، بعيداً عن مواقع إنتاجها الأصلية، ما يشير إلى وجود نوع من التجارة القديمة.
في سياق متصل، تُظهر شعوب الصحراء، ومن ضمنها سكان مدينة سيفار في طاسيلي، كيف ساعدت الظروف الطبيعية، كالأنهار التي كانت تخترق الصحراء الكبرى، في إيجاد جسور للتواصل بين الشمال والجنوب والوسط. ومن خلال السفر النهري، استطاعت هذه المجتمعات التعرف على بعضها، بفضل مهاراتها في البحرية وتصنيع القوارب، كما توثق النقوش الموجودة في كهوفها، التي تجسد قوارب متعددة، مدى أهمية الأنهار والسفر بالنسبة لهم.
يبدو أن طاسيلي، التي تعد اليوم صحراء قاحلة، كانت في الماضي أرضاً خضراء مليئة بالحياة، حيث كانت سهولها الخضراء موطناً للزرافات وأفراس النهر والغزلان والأبقار والأغنام. وقد كشفت دراسات أثرية طويلة أن سكان طاسيلي القدامى مارسوا الرعي والزراعة، مستفيدين من تلك الظروف الطبيعية الخصبة.
هذا التبادل والتفاعل الحضاري، الذي شهدته طاسيلي مع المناطق المجاورة والبعيدة، أوجد بيئة ثقافية غنية ومتنوعة. وقد أسهمت هذه الظروف في جعل المنطقة نقطة جذب للمهاجرين، سواء من الجنوب بامتداد الغابات الاستوائية أو من الشمال، ما أدى إلى اندماج ثقافات متعددة في بوتقة واحدة.
تعتبر النقوش الحجرية، التي تحتوي على تنوع بشري ملحوظ وتصف بعضها بأنها "لغز محير"، شاهداً على هذا التلاقح الثقافي، مظهرةً أفراداً بملابس وتسريحات شعر مختلفة. وهذه النقوش تُظهر أيضاً ثمار رحلات التجارة والتبادل الحضاري، التي قام بها سكان المنطقة، ما يُشبه إلى حد ما لوحات الاستشراق التي رسمها الأوروبيون.
تحمل هذه الكتابات والنقوش القديمة قيمة تاريخية عظيمة، لأنها توثق ليس فقط الحياة اليومية لأصحابها وعلاقاتهم بالمجتمعات الأخرى، وإنما أيضاً عاداتهم وعقائدهم وأوضاعهم الاجتماعية. ورغم أن بعض هذه النقوش قد تحمل مبالغات أو تصورات غامضة، فإنها تبقى المصدر الأساسي لفهم طريقة حياة هؤلاء البشر القدماء وثقافاتهم.