في عدوانه المستمر على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، والذي يقوم خلاله الاحتلال الإسرائيلي بحرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته ومعالمه الأثرية.. قام الجيش الإسرائيلي باستهداف أكثر من 200 موقع أثري في مناطق مختلفة من القطاع، منها المساجد والكنائس والأسواق التراثية والقصور المعمارية والمتاحف على غرار متحف القرارة الثقافي.
ويعد متحف القرارة من أهم الشواهد على تاريخ غزة وحضارتها؛ حيث يضم مئات القطع الأثرية التي تعبّر عن التراث اليومي للفلسطينيين كدليل على هويتهم المتجذرة، ووجودهم الراسخ في الأرض.
متحف القرارة تتويج لحلم زوجين عاشقين للآثار..
3500 قطعة أثرية من التراث الفلسطيني
يقع متحف القرارة الثقافي على قمة تلة صغيرة شرقي مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة في بلدة القرارة التي اشتق اسمه منها.
ووفق موقع THE CHRISTIAN SCIENCE MONITOR، فإن متحف القرارة هو ثاني متحف في قطاع غزة بعد متحف رفح، حيث تأسس بمبادرة ذاتية من قِبل محمد أبو لاهية وزوجته، العاشقين للآثار عام 2016، حيث قاما بتجميع عدة قطع أثرية ترمز لتاريخ وتراث غزة.. ويصل محتوى المتحف، الذي بدأ بقطعة تراثية واحدة، إلى قرابة 3500 قطعة أثرية حالياً.
ويصف محمد أبو لحية، مدير ومؤسس متحف القرارة، متحفه الذي جمع مقتنياته قبل 12 عاماً، بأنه "دليل حضاري وتاريخي وفكري وثقافي وسياحي".
ويعود اهتمام السيد أبو لحية بالآثار إلى طفولته، حين كان يبلغ من العمر 8 سنوات، وكان يعيش في قرية القرارة آنذاك.
يقول أبو لحية: "كنت أتوقف عدة مرات في طريقي إلى المدرسة؛ لألقي نظرة على الأشياء القديمة والغريبة التي رأيتها على طول الطريق".
ويضيف: "كنت أحضر تلك الأشياء في طريق عودتي إلى المنزل؛ لأحتفظ بها في غرفتي". ولكن حلمه لم يتوقف عند هذا الحد، بل سعى إلى جمع مثيلات هذه القطع الأثرية عندما كبر؛ ليكوّن منها متحفاً تراثياً مصغراً في قطاع غزة يُطوره باستمرار..
أما نجلاء، زوجة السيد أبو لحية، فقد درست الفن وعلم الآثار في جامعة غزة، ثم وظفت دراستها لمساعدة زوجها في توثيق القطع الأثرية التي قاموا بجمعها معاً لتأسيس المتحف تحت إشراف فنانين تشكيليين..
وتقول نجلاء عن المتحف: "إن الرغبة في تأسيس متحف خاص بالقرارة جاء لكون البلدة ذات طابع إنتاجي وزراعي، ومن أجل كسر القالب التقليدي المعروف عنها بطريقة تعزز معرفة سكان المنطقة بتراثهم وآثارهم".
من صومعة حبوب إلى قِبلة لعشاق التاريخ الفلسطيني
وقد اختار السيد أبو لحية وزوجته بيتاً قديماً كان يُطلق عليه اسم "بايكة الحاج جابر الأغا" ليكون مكاناً لإقامة المتحف، ومن ثم تمكنا من الحصول على ترخيص من وزارة السياحة والآثار الفلسطينية لإقامة المتحف، ودمغ جميع القطع التي يضمها هذا المتحف، وتسجيلها في سجلات رسمية لدى الوزارة.
وقد كان متحف القرارة، قبل أن يضم مجموعة الآثار التي يحتويها اليوم، صومعة حبوب في مدينة غزة، أما الآن فقد أصبح وجهة لزيارة الوفود السياحية والعائلات والرحلات المدرسية، فهناك زاوية مخصصة لاستقبالهم، ولإلقاء المحاضرات التاريخية التي تعرّفهم بالتراث الفلسطيني، كما يمنحهم المتحف فرصة التجول في أرجائه لمشاهدة القطع التراثية عن قرب.
مقتنيات المتحف: تجسيد لحياة الفلاح الفلسطيني قبل "نكبة 48"
آلات الفلاحين وأدوات زينة النساء..
زُين المتحف، المحاط بأعمدة كورنثية رومانية من طراز العمارة الكلاسيكية، بمنحوتات حجرية تراثية.
وينقسم متحف القرارة إلى قسمين، يضم القسم الأول القطع النحاسية والخشبية وبعض المعدات الحديدية وأدوات الطبخ القديمة، ناهيك عن مجموعة من الأدوات الحادة والخناجر..
كما يوجد بالمتحف ركن خُصص للأدوات والآلات التي كان يستعملها الفلاح الفلسطيني في أرضه، بالإضافة إلى معدات التجار، وأيضاً يضم هذا القسم أجهزة الراديو والتلفزيون والكاميرات القديمة، التي يعود عمرها لعشرات السنين.
وفي المتحف خزانة خشبية توجد بها المكاحل النحاسية والبراقع التقليدية التي كانت تستخدمها النساء البدويات قناعاً للوجه، بالإضافة لبعض أدوات الزينة التي كانت تستعملها النساء الفلسطينيات قبل النكبة..
وفي هذا القسم من المتحف نجد السلاسل التي تضم قطعاً معدنية وفضية، كانت تستعمل من قِبل الفلاحات قديماً في الزينة وصناعة الأقراط.
أما القسم الثاني من متحف القرارة، فيحتوي على مجموعة من الصناديق الزجاجية، بداخلها عينات مختلفة من صخور ملونة، وقطع نقدية فضية معدنية عليها شعارات وصور.
به معصرة زيتون عمرها يزيد على 3 آلاف عام
في الساحة الخارجية لمتحف القرارة يعثر الزائر على عشرات القطع والحجارة القديمة التي تعود أصولها للتاريخ الفلسطيني، والتي يتم استخراجها من باطن الأرض خلال عمليات الحفر أو البناء داخل البلدة أو خارجها.
كما يوجد أيضاً في الساحة قطعتان تراثيتان نادرتان تتمثلان في لوح الدراس وهي أداة زراعية كان المزارعون يستخدمونها قديماً، ومعصرة للزيتون تعود للعصر الروماني، ويزيد عمرها على 3 آلاف عام. والمقعد العربي الذي تتزين جدرانه بالأثواب القماشية النسائية والرجالية التقليدية، إضافة لصبابات القهوة والمفارش العربية.
وبالتالي، فمقتنيات المتحف تعبّر عن حقب وحضارات مختلفة مرت على أرض غزة انطلاقاً من العصر النحاسي من عام 4000 قبل الميلاد، مروراً بحضارة الكنعانيين، وصولاً إلى حضارة العصر البرونزي.. وتشمل العصور اللاحقة المعروضة الإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية والإسلامية المبكرة والعثمانية.
ومن المجموعات الأثرية التي ينجذب لها الزوار أيضاً الآلات الحديثة من المحاريث الخشبية، وسروج الخيول، والسلال المنسوجة يدوياً، والأواني الخشبية والنحاسية، والأباريق، والأواني التي استخدمها أجدادهم.