"لم يكن في جعبتي يومها سوى 138 جنيهاً فلسطينياً، آليت على نفسي أن أعيش بها والأطفال، أو أموت معهم؛ إذ تصورت وكأن الشعب الفلسطيني سوف يُمحى وينقرض لو مات الأطفال! وكيف يُمحى شعبنا العظيم! لا.. وألف لا!".. هذا ما قالته هند الحسيني، المناضلة الفلسطينية التي وضعتها الصدفة أمام مسؤولية التكفل بعشرات اليتامى الفارين من مجزرة "دير ياسين" التي ارتكبها الاحتلال ضد الفلسطينيين بالقدس عام 1948، فمن هي المناضلة المقدسية التي أفنت حياتها في رعاية الأيتام؟
هند الحسيني، كما تفيد مواقع إعلامية فلسطينية، هي مناضلة وُلدت في مدينة القدس عام 1916، ودرست في مدرسة البنات الإسلامية، كما أنهت الدراسة الابتدائية عام 1932، والتحقت بعدها بالكلية الإنجليزية للبنات، وأنهت دراستها الثانوية عام 1937، ثم عام 1938 درست آداب اللغتين العربية والإنجليزية.
وبدأت هند مسيرتها المهنية كمدرسة في مدرسة البنات الإسلامية لمدة سنة دراسية، وتوقفت عن التدريس؛ إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية لفترة قصيرة، ثم واصلت التدريس حتى نهاية العام الدراسي 1945.
في سنة 1948، اختارت هند الحسيني التركيز على العمل الاجتماعي التطوعي، فشاركت في تأسيس "جمعية التضامن الاجتماعي النسائي" في القدس، التي انتشرت فروعها (22 فرعاً) في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيما اهتمت هذه الجمعية بدراسة أحوال النساء والأطفال في المدن والقرى الفلسطينية، وأنشأت روضات للأطفال، كما نظّمت حملات لمحو الأمية ومراكز لتعليم الخياطة.
وساهمت الحسيني بإنشاء جمعية الاتحاد العربي النسائي في القدس عام 1928، لتسجل اسمها في مقدمة السيدات المقدسيَّات، اللواتي كرّسن حياتهنَّ لخدمة شعبهن ورعاية الأيتام والفقراء وأبناء من قتلوا خلال "النكبة".
وانتشرت فروع الجمعية في أرجاء القدس، ووصل عددها 22 فرعاً، استطاعت من خلالها تفحص أحوال الأطفال المهملين في بعض المدن والقرى الفلسطينية، ونظمت حملات لمحو الأمية وتعليم المهارات.
الصدفة التي غيَّرت حياة هند الحسيني!
القصة بدأت، في 8 نيسان/أبريل عام 1948، وتزامناً مع أحداث "النكبة"، هاجمت عصابات من المستوطنين قرية "دير ياسين" غربي القدس، وقتلت غالبية أهلها، تاركين خلفهم عشرات الأطفال دون معيل.
وفي اليوم ذاته، كانت هند الحسيني تمر بزقاق البلدة القديمة على عَجَلَةٍ من أمرها، لتلحق باجتماع جماهيري يبحث أوضاع المدينة، حيث التقت بالصدفة بالأطفال المذعورين، لتكون تلك الحادثة مفصليةً في حياتها وحياة هؤلاء الأطفال حسب ما نشرته وكالة الأناضول الإخبارية، وسرعان ما توجهت الحسيني إلى غرفتين في "سوق الحصر" وهو أصغر أسواق البلدة القديمة بالقدس، كانتا تحت تصرفها، وأسكنت بهما الأطفال وقدمت لهم المشرب والمأكل.
وعن تلك الأيام قالت الحسيني، حسب مذكراتها: "لم يكن في ذلك الحين من الفراش والغطاء ما يكفي لخمسين طفلاً، فناموا على الحصر، ولم يكن في جعبتي حينها سوى 138 جنيهاً فلسطينياً! (عملة أصدرتها سلطات الانتداب البريطاني)" وأضافت: "آليت على نفسي أن أعيش بها والأطفال، أو أموت معهم، إذ تصورت وكأن الشعب الفلسطيني سوف يُمحى وينقرض، لو مات الأطفال!! وكيف يمحى شعبنا العظيم!؟ لا وألف لا! ".
تغطية صحفية : "هند الحسيني "كريمة النكبة" .. عاشت وأفنت حياتها لأجل الوطن وأبنائه .. وتركت خلفها إرثاً لا يموت" pic.twitter.com/wdMHBhzpUi
— القسطل الإخباري (@AlQastalps) May 17, 2023
وحملت الحسيني على عاتقها مسؤولية تربية الأطفال اليتامى، دون أن يكون لديها أي إمكانات، ومع ذلك تولت مهمة الاهتمام بهم وتربيتهم وفتح ملجأ لهم، وبعد مدة قصيرة، ارتفع عدد النزلاء من 55 إلى 125 طفلاً لاجئاً من شتى القرى المهجرة، واحتضنتهم دار الطفل العربي كبيت العائلة الكبير، وعندما انتظمت المدارس، وزّعت الحسيني الأطفال الذين جمعتهم على الصفوف المناسبة لسنهم لتلقي العلم.
ووجدت أن الأنسب لهم فتح صفوف دراسية في حرم المنزل الذي يقيمون فيه، فاستخدمت المرآب، ومأوى الخيول، كصفوف مؤقتة، ليكون هؤلاء الأطفال تحت إشرافها مباشرة.
فيما طرقت السيدة هند الحسيني أبواب العديد من الدول والمؤسسات العربية والأجنبية لتجمع التبرعات ونذرت نفسها لخدمة مجتمعها.
كما أولت السيدة هند عناية خاصة بتزويد الطالبات ما يحتجن بكافة الجوانب التعليمية والثقافية والمهنية، بهدف إكساب فتيات الدار مهناً تعينهن على صُروف الدهر، مثل الخياطة والتطريز والطباعة والتصوير والطهي، بحسب الدجاني.
ومع مرور السنوات، أصبحت المؤسسة معلماً من معالم القدس، وضمت مدرسة تعليمية داخلية منتظمة، لم تقتصر بطلابها على أيتام "النكبة"، بل أخذت تضم في غرفها وصفوفها طالبات مقدسيات اعتبرن السيدة هند نموذجاً فريداً للمربية والمعلمة والأم المخلصة.
فيلم "كان في جعبتي 138 جنيهاً"
وتكريماً للمناضلة المقدسية، اختارت مخرجة فلسطينية شابة تدعى ساهرة درباس أن تروي في فيلمها الوثائقي (كان في جعبتي 138 جنيهاً) قصة عطاء هند الحسيني بدون حدود في رعاية الأطفال الأيتام.
الفيلم الذي يسرد حكاية هند ضمن تسلسل تاريخي اشتمل على صور بالأبيض والأسود لمجموعة من الأنشطة التي كانت تقوم بها من أجل جمع الأموال اللازمة لإتمام مشروعها التي بدأته بعد عام 1948 لتوفير مأوى لخمسة وخمسين طفلاً يتيماً، حسب ما نشرته وكالة رويترز.
ويذكر الفيلم، نقلاً عما كتبته هند في مذكراتها، أنها مرّت بمجموعة كبيرة من الأطفال كانوا الناجين من "مذبحة دير ياسين".
وتقدم درباس في فيلمها بطريقة مكثفة كيف تسلسلت الأحداث منذ ما قبل عام 1948 مروراً بالحديث عن النكبة عندما نزح 750 ألف فلسطيني أو أُجبروا على الرحيل عن منازلهم في الحرب التي انتهت بالإعلان عن قيام إسرائيل.
ويعرض الفيلم صوراً للنازحين الذين غصت بهم مدينة القدس قبل احتلالها عام 1967، مع الإشارة إلى الأعمال التطوعية التي كانت تقوم بها هند في مساعدة الجرحى والبحث عن الأطفال وكبار السن الذين لم تبقِ لهم الحرب مأوى.
ونجحت هند الحسيني في تحويل منزلها في بداية الأمر إلى دار لرعاية الأيتام، لتؤسس لهم بعد ذلك مدرسة يتعلمون فيها ويسكنون فيها؛ ليصل عدد الأطفال فيها بين عامَي 1958 و1975 إلى 350 طفلاً وطفلة من القدس والضفة الغربية وقطاع غزة يحظون بالرعاية والاهتمام والتعليم.
كما يسرد الفيلم كيف أثرت الحرب التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المحتلة في تناقص عدد الأطفال المستفيدين من هذا المشروع الإنساني، فبعد الانتفاضة الأولى التي اندلعت عام 1987 بدأ الأطفال من غزة يجدون صعوبة في العودة إلى القدس؛ بسبب العراقيل التي وضعها الاحتلال.
ويوضح الفيلم أنه بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 لم يتمكن أهالي الأطفال من الضفة الغربية من الوصول إلى القدس لزيارة أبنائهم أو أخذهم لتمضية الإجازات لديهم؛ مما كان يضطر المؤسسة التي حملت اسم (دار الطفل العربي الفلسطيني) إلى إيصال الأطفال إلى الحواجز التي يضعها الاحتلال من جهة القدس؛ ليكون أقاربهم في الجهة الأخرى من الحاجز لتسلّمهم.
ويُشار إلى أن المناضلة الفلسطينية حازت العديد من الأوسمة لقاء عملها الإنساني، حيث حصلت على وسام من البابا بولس الرابع خلال زيارتها للقدس عام 1964، ووسام الكوكب الأردني للخدمة الاجتماعية عام 1983، كما نُصبت هند الحسيني رئيسة لمجلس أمناء كلية الآداب للبنات-جامعة القدس.
ونالت عضوية العديد من المؤسسات، فهي عضو في مجلس إدارة الفتاة اللاجئة، وفي مجلس إدارة جمعية المشروع الإنشائي، ومن مؤسسي جمعية المقاصد الخيرية.
وبعد رحلة طويلة من العطاء ودَّعت فلسطين المناضلة الحسيني عام 1994 إثر مرض عضال، تاركةً خلفها مؤسسة عريقة تضم اليوم كلية ومتحفاً وداراً للثقافة ومركزاً طبيباً، فيما قالت عنها حنان الهْيدَمي، إحدى طالبات "دار الطفل العربي": "كانت أُماً للجميع، لم تكن فقط تحتضن أبناء الشهداء والمهجرين، بل احتضنت كل أطفال القدس. علمتنا أصول الحياة والعادات والتقاليد، كما علمتنا الاعتماد على أنفسنا، ولن أنسى فضلها مدى الحياة".