يُعتبر اسم إيلان بابيه غنياً عن التعريف، لا، بل حاضراً بقوة في الحديث عن تاريخ القضية الفلسطينية. فهو مؤرخ إسرائيلي من أهم نقاد الصهيونية بصفتها حركة استعمارية تقليدية، مؤكداً أن استعمارها قائم على العنصرية أولاً وأخيراً.
ينتمي بابيه إلى تيار "المؤرخين الجدد" في إسرائيل، وهو الصوت الأعلى فيه، الذي قدّم طروحاتٍ تأريخية تخالف السردية الصهيونية المسلّم بها فيما يتعلق بالنكبة -وما رافقها من أحداث- ويدعو دوماً إلى إعادة النظر إلى الصراع العربي الإسرائيلي وفق معايير محايدة.
بالنسبة إلى إيلان بابيه، فإن عمليات التطهير العرقي والترحيل القسري التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين عام 1948، كانت جزءاً لا يتجزأ – بل جوهرياً- من استراتيجية الحركة الصهيونية، التي تتحرك انطلاقاً من دوافع قومية لتمارس استعمارها.
من هو إيلان بابيه؟
وُلد إيلان بابيه في حيفا عام 1954 لأبوين يهوديين من أصولٍ ألمانية، هربا من الملاحقة النازية لليهود خلال ثلاثينيات القرن العشرين. في سنّ الـ18، تمّ تجنيده في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقد خدم في مرتفعات الجولان خلال حرب أكتوبر عام 1973.
تخرّج في الجامعة العبرية بالقدس سنة 1978 بعدما نال البكالوريوس في مجال العلوم السياسية، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة أكسفورد عام 1984 في الدراسات الدولية. كان عنوان أطروحته "بريطانيا والصراع العربي الإسرائيلي"، وقد أصبح ذلك كتابه الأول.
هو اليوم أستاذ في كلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة "إكسيتر" البريطانية، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في الجامعة، كما أنه المدير المشارك لمركز "إكسيتر" المتخصص في الدراسات العرقية والسياسية.
قبل انتقاله إلى بريطانيا، كان بابيه محاضراً بارزاً في العلوم السياسية بجامعة حيفا. وطوال فترة تعليمه، التي استمرت منذ عام 1984 وحتى 2007، ترك المؤرخ الإسرائيلي أثراً كبيراً في طلابه. وفي الفترة نفسها، ترأس معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية طوال 8 سنوات.
في التسعينيات، كان عضواً بارزاً في "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة"، قبل أن يستقيل لاحقاً؛ وهو تحالف سياسي عربي يهودي في إسرائيل، يتكون من الحزب الشيوعي وجهات يسارية أخرى. وفي انتخابات الكنيست 1996 و1999، كان مرشحاً على قائمة الأحزاب.
غادر إيلان بابيه إسرائيل في العام 2007 بعدما تمّ التضييق عليه وتهديده بشكلٍ يومي، بسبب مواقفه المناصرة للفلسطينيين، لاسيما بعد تأييده لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية، ما دفع رئيس جامعة حيفا إلى مطالبته بتقديم استقالته.
تعرض بابيه للكثير من الضغوطات في إسرائيل بسبب تأييده لعودة اللاجئين، ولحقوق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال. وقبل مغادرته، تمّت إدانته من قِبل الكنيست، ودعا وزير التعليم إلى إقالته من منصبه، كما ظهرت صورته في إحدى الصحف وأُشير إلى أنه مستهدف.
دافع عن توثيق مجزرة الطنطورة
عام 1998، قدّم طالب إسرائيلي يُدعى تيدي كاتس (أو كاتز) رسالة الماجستير في دائرة تاريخ الشرق الأوسط بجامعة حيفا، بعنوان "تهجير العرب من القرى المحاذية لجبل الكرمل"؛ وثّقت الدراسة المجزرة التي قام بها الجنود الإسرائيليون في مايو/أيار 1948 بقرية الطنطورة.
وكان كاتس أعدّ رسالة الماجستير باستخدام ما يُعرف بـ"التأريخ الشفوي"، من خلال جمع شهادات ناجين فلسطينيين من سكان الطنطورة وجنود إسرائيليين من فرقة الجيش التابع لـ"الهاغانا"، والذين شاركوا أو شهدوا على المجزرة.
تيدي كاتس كان طالباً في صفوف إيلان بابيه، وكان متأثراً به وبأفكاره. وبعدما نشر رسالة الماجستير، تراجع الجنود الذين قابلهم كاتس عن شهاداتهم، وقاموا بمقاضاته، متهمينه بتزوير المعلومات.
بعد ضغوطٍ كبيرة، سارعت جامعة حيفا إلى شطب رسالة الماجستير التي حاز فيها كاتس على درجة "امتياز". وبعدما كان قد اعتذر، تراجع كاتس عن اعتذاره لاحقاً، وحاول استئناف القضية لدى المحكمة، التي ردّت الدعوى.
في العام 2000، جرّدته جامعة حيفا من شهادة الماجستير. لكن وفي سابقة من نوعها، نوقشت مجزرة الطنطورة في محاكم الاحتلال، وكُتب عنها في الصحافة العبرية بسبب إصرار بابيه على دعم كاتس علنياً، وانخراطه في جدلٍ واسع بسبب رسالة طالبه.
في افتتاحيتها عام 2022، دعت صحيفة Haaretz إلى إعادة الاعتبار للباحث تيدي كارتس، وقالت إن تجدد الاهتمام بقضية مجزرة الطنطورة يُلزم جامعة حيفا بفحصٍ جديد لرسالة الماجستير التي قدّمها عام 1998، بعدما ألغتها بدعوى أنها تشوّه التاريخ.
لم يسجل المؤرخون الإسرائيليون في السابق أي شيء عن هذه المجزرة، ولكن كاتس وإيلان بابيه كان لهما دور كبير في توثيقها ونشرها للرأي العام الإسرائيلي. واللافت أن رسالة ماجستير تيدي كاتس بُني عليها لإنتاج فيلمٍ وثائقي عن مجزرة الطنطورة، وقد أخرجه إسرائيلي.
المؤرخ الإسرائيلي الذي يدعم القضية الفلسطينية
لإيلان بابيه مؤلفات كثيرة عن القضية الفلسطينية، مثل: "الشرق الأوسط الحديث"، و"تاريخ فلسطين الحديثة"، و"قضية إسرائيل/فلسطين"، إضافةً إلى "10 خرافات عن إسرائيل" وغيرها الكثير.
لكن أكثرها إثارة للجدل كان من دون شك "التطهير العرقي في فلسطين" (2006) الذي يُعتبر كتاب القرن الحديث ومصدراً لا غنى عنه، لمحاولة فهم طبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين، وتفكيك السرديات التاريخية المؤدلجة.
فمن خلاله، يكشف بابيه تفصيلياً عن سياسات صهيونية ممنهجة لتطهير فلسطين عرقياً وطرد سكانها الأصليين، منذ بدء الاستيطان، وحتى لحظة إعلان ما يُعرف بـ"دولة إسرائيل".
أثار كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" صدمة كبيرة في إسرائيل أعقبها جدلٌ واسع، لاسيما أن بابيه يؤكد في الكتاب الرواية الفلسطينية بشأن النكبة، ويقدّم أدلة حسّية على ذلك، عن طريق استخدام أرشيف الهاغاناه بعد الإفراج عنه أمام الباحثين.
يشدد الكتاب على أن الفلسطينيين لم يتركوا أرضهم طوعاً عام 1948، وإنما هُجّروا منها وفقاً لما يُعرف بـ"خطة دالت"، أو النسخة الرابعة للخطة الأصلية التي وُضعت في ثلاثينيات القرن العشرين من طرف قيادة الحركة الصهيونية في حينه.
في الوقت نفسه، ينتقد إيلان بابيه الفلسطينيين، ويرى أنهم يفتقرون إلى الوحدة ولا يمتلكون تصوراً محدداً عن شكل المستقبل.
ففي حديثٍ إلى جريدة "الأخبار" اللبنانية عام 2018، يقول بابيه متابعاً: "حين يتحقق هذان الأمران، تصبح مسألة تكثيف الرأي العام العالمي -وحتى استدعاء دعم أكثر صراحة من داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته- أمراً تلقائياً".
ويضيف: "للحقيقة، فإن هناك تصاعداً كمياً ملموساً في حجم التضامن مع الفلسطينيين وقضيتهم عبر العالم، وإن كان لا يزال إلى الآن في إطار المجتمع المدني من دون الحكومات".
مع الأيام الأولى للحرب الإسرائيلية على غزة، كتب المؤرخ الإسرائيلي لموقع "وقائع فلسطين" (Palestine Chronicle) مقالاً بعنوان "أصدقائي الإسرائيليين: لهذا أدعم فلسطين"، قال فيه إن المرء عليه أن يشعر بالخوف من سياسات إسرائيل الاستعمارية ضد الفلسطينيين حتى إن كان مواطناً يهودياً في إسرائيل.
واعتبر بابيه -في مقاله المنشور بالإنجليزية والفرنسية- أن "الصورة الأشمل في المواجهة هي قصة شعب مستعمر يناضل للبقاء، خاصة في وقت انتخاب حكومة تريد تعجيل عملية القضاء على الشعب الفلسطيني ولا تعترف به، وهو ما جعل حماس تتحرك بسرعة أيضاً".
وأشار، في الوقت ذاته، إلى أن هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، اعتبره الإسرائيليون -حتى الليبراليون منهم- صك غفران لجميع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني منذ النكبة، واعتبروه أيضاً تفويضاً مطلقاً لإكمال الإبادة الجماعية ضد سكان غزة.
لكن المؤرخ الإسرائيلي يضع عملية طوفان الأقصى في سياقٍ تاريخي أوسع، مشيراً إلى أنه -ومنذ العام 1967- سُجن مليون فلسطيني مرة واحدة على الأقل خلال حياتهم، مع ما يشمله ذلك من انتهاكات وتعذيب. كما أن الاحتلال فرض منذ 2007 حصاراً محكماً على غزة، فيما استمرت عمليات قتل الأطفال في الضفة الغربية.
في المقال نفسه، يعتبر إيلان بابيه أن هذا العنف الإسرائيلي ليس جديداً "فهو الوجه الدائم للصهيونية منذ تأسيس إسرائيل". ولذلك، ليس بمقدور الحكومة الإسرائيلية أن تلعب دور الضحية، خاصة أن قطاعات كبيرة من المجتمع المدني الغربي لا يمكن خداعها بسهولة بهذا النفاق الذي تجلى في المقارنة مع حالة أوكرانيا.
ويرى بابيه أن البديل يتمثل في "فلسطين منزوعة الصهيونية ومحررة وديمقراطية من النهر إلى البحر، فلسطين تستقبل اللاجئين وتبني مجتمعاً لا يميّز بين أفراده، على أساس الثقافة أو الدين أو العرق".
"حماس حركة نضالية تحررية"
في لقاءٍ مع علي الظفيري أُجري في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قال إيلان بابيه ضمن برنامج "المقابلة" عبر قناة "الجزيرة"، إن "حماس حركة نضالية تحررية، وليست إرهابية"، وأضاف: "كان سهلاً للغاية بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 أن يتم ربط أي جماعة إسلامية سياسية بفكر الإرهاب".
واعتبر بابيه أنه لم يكن هناك فرق، بالنسبة إلى الغرب، بين الدولة الإسلامية والقاعدة وحماس وحزب الله والجهاد، "لقد وُضعوا جميعاً في الصندوق نفسه، صندوق الإسلام العربي الإرهابي".
لكنه يرى أننا إذا فهمنا أصول هذه الحركات، وقرأنا تصريحاتها وفهمنا تطلعاتها، وإذا كنا نعرف التاريخ الفلسطيني والعربي، "سندرك أنه كان هناك وبشكلٍ دائم حركات علمانية ومجموعات يسارية إلى جانب الحركات والمجموعات الإسلامية السياسية".
واستشهد إيلان بابيه بالحكم الملكي في مصر قائلاً إنه انتهى على يد تحالفٍ مكوّن من الإخوان المسلمين والضباط الأحرار، وأنه تم تحرير الجزائر من قِبل الجماعات الإسلامية مع جبهة التحرير الوطني التي لم تكن جماعة إسلامية.
وخلص قائلاً: "لذلك، فإن حقيقة وجود جماعة إسلامية في فلسطين يقابلها وجود فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، هي حالة طبيعية في كل نضالات التحرر بالعالم العربي لأن كثيراً من الناس فيه مسلمون متديّنون ويؤمنون بأن الإسلام هو جزء من النضال".
وختم المؤرخ الإسرائيلي بالقول: "بعض الناس تتفق معهم، والبعض الآخر لا، لكن هذا لا يحوّلهم إلى إرهابيين. وهذا يعني أن حركة التحرير الفلسطينية لم تكن كياناً واحداً، وهذا الأمر ينسحب على كل حركات التحرر في العالم".
أما بالنسبة إلى مرحلة ما بعد حرب 2023، يرى إيلان بابيه أن الصراع الداخلي اليهودي الإسرائيلي سيستمر، وأنه "من المؤكد أن نتنياهو سينهي هذه الحرب أضعف بكثير مما كان سابقاً، ولكن يجب أن نتذكر أنه لا تزال لديه قاعدة قوية داخل إسرائيل".
ويستدرك قائلاً: "لكن أساس المشكلة ليس نتنياهو، بل إنه لدينا مجتمع يهودي إسرائيلي ليس مستعداً لأن يغيّر موقفه تجاه فلسطين والفلسطينيين، وهذا مقلق جداً".