عند الحديث عن أشهر الشركات الخاصة بصناعة السيارات التي أحدثت ثورة كبيرة في عالم وسائل النقل خلال القرن العشرين، فستكون شركة "فورد" أول ما يتبادر إلى الأذهان، بفضل ما استطاعت تحقيقه في هذا المجال.
إذ إن هذه الشركة، بفضل صاحبها هنري فورد، جعلت السيارات تتحول من وسيلة نقل لا تستعملها إلا الطبقة الغنية، إلى عربة كهربائية تستطيع الطبقة الوسطى اقتناء واحدة منها.
لكن نجاح فورد في هذا المجال لم يأتِ بشكل سريع، وإنما بعد عدة إخفاقات، وتجارب مختلفة، خصوصاً أنه انتقل من مجال الهندسة الزراعية، التي كانت مصدر رزقه الوحيد، إلى عالم الهندسة الصناعية، التي صنع فيها اسمه الذي أصبح شهيراً إلى غاية الآن.
نشأة هنري فورد
وُلد هنري فورد في 30 يوليو/تموز 1863، في قرية قريبة من مدينة ديربورن الواقعة بولاية ميشيغان الأمريكية.
كانت عائلة فورد تعمل في مجال الزراعة، الأمر الذي جعله يعمل بدوره في المجال نفسه منذ أن كان في سن المراهقة، على الرغم من أنه لم يكن يحب هذا العمل، ولم يكن يستهويه قط.
عندما بلغ من العمر 15 عاماً، قدَّم والد هنري فورد له ساعة يد على شكل هدية، فقام بتفكيكها وإعادة تجميعها؛ رغبة منه في اكتشاف ما بداخلها، وطريقة تصنيعها.
شغف فورد بعالم الصناعة جعله يسافر إلى مدينة ديترويت وعمل هناك فترة متدرباً ميكانيكياً، كما أنه اشتغل بعد عودته إلى دياره في شركة ويستنجهاوس إلكتريك، الخاصة بمجال التطوير الكهربائي، لكنه اضطر غلى تركها والعودة لمجال الزراعة بعد زواجه.
دخول هنري فورد عالم الصناعة
كان فورد بارعاً في تشغيل المحرك البخاري الذي تصنعه شركة وستنجهاوس، ليعود مرة أخرى للعمل في الشركة، ولكن هذه المرة ليكون مهندساً ميكانيكياً، وظيفته صيانة محركات الشركة البخارية.
وخلال فترة عمله، درس فورد المحاسبة في كلية غولدسميث وبراينت ستراتون للأعمال بمدينة ديترويت.
كما أنه قام كذلك بصناعة وتطوير عربة بخارية تشبه الجرار، إضافة إلى إنشائه عربة ذات أربع عجلات، لكنه كان يرى أن البخار غير مناسب لهذا النوع من العربات الخفيفة، فاكتشف بعد ذلك طريقة عمل المحركات عندما سنحت له الفرصة بإصلاح محرك إحدى شركات السيارات التي كانت موجودة في ذلك الوقت.
سنة 1891، انتقل فورد للعمل في شركة "إديسون" للكهرباء، وهناك سمع توماس إديسون بخطط هنري فورد لإنشاء عربة جديدة ذات أربع عجلات، فقام بدعمه من أجل العمل على هذه الفكرة.
وفي سنة 1892 قام بصناعة أول سيارة مزودة بمحرك بقوة أربعة أحصنة، وأسطوانتين قُطر كل منهما بوصتان ونصف، وشوط أسطوانة ترددي بلغ ست بوصات، وكان متصلاً بعمود مناولة وسيط من خلال حزام، ثم إلى العجلة الخلفية بواسطة سلسلة.
لكنه قام ببيع هذه السيارة؛ للتمكن من العمل وتطوير واحدة أخرى ذات مواصفات أحسن، إلا أنه في تلك الفترة تمكن من الحصول على ترقية في شركة "أديسون"، وأصبح يحصل على راتب عالٍ جداً، لكن شريطة التخلي عن أي عمل موازٍ.
نجاح ساحق بعد فشل
اضطر هنري فورد إلى ترك شركة الكهرباء من أجل العمل في شركات خاصة بالسيارات، لكنه لم يحقق أي نجاحات تُذكر إلى جانبها.
وكانت أولى هذه الشركات هي "ديترويت" للسيارات، لكنه بعد مدة قصيرة، تمت إقالته بعد أن تمت تصفية الشركة، ليقوم إلى جانب عدة شركاء، بتصنيع سيارات خاصة بالسباق، والتي فشلت بعد 16 شهراً من تأسيسها.
بعد سنوات من المحاولة، وعندما وصل إلى سن الـ40، قرر فورد إنشاء معرض خاص لعرض السيارات، حيث يتمكن الناس من تجربة سيارات أناس آخرين؛ وذلك لأن شراء السيارات لم يكن بمقدور من هم من الطبقة الوسطى.
في سنة 1903، قام فورد بتأسيس شركته الخاصة للسيارات "فورد موتور"، والتي جاءت من فكرة حصول الجميع على سيارة؛ لكيلا تكون حكراً على الطبقة الغنية فقط، وقام بإصدار أول سيارة والتي حملت اسم "موديل T"، وعرفت بعد ذلك على أنها سيارة القرن.
تمكنت الشركة من النجاح والتطور بشكل سريع؛ وذلك لأنها كانت عبارة عن ثورة في النقل بالنسبة للأمريكيين الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى، لأنها كانت تقدم سيارات بأسعار مناسبة لهم.
وبسبب مساهمات هنري فورد الرائعة في عالم السيارات، حصل على مكانة مرموقة في "قاعة مشاهير السيارات"، التي تم إنشاؤها سنة 1939 في مدينة ديربورن الأمريكية.
خطوط التجميع.. الفكرة الرائدة التي أطلقها فورد
كان هنري فورد أول من طوَّر طريقة العمل التي تعرف بـ"خطوط التجميع" في شركته الخاصة بالسيارات، وذلك سنة 1913.
إذ إنه قبل ذلك، كان يستوحي طريقة عمله من مختلف مجالات التصنيع؛ بدءاً من صناعة الدراجات، وصولاً إلى تغليف اللحوم، لتقديم الأفضل في مجاله.
ومن هنا جمع فورد وفريقه كثيراً من الأفكار، ليصل إلى طريقة "خطوط التجميع"، التي تتم من خلال العمل على شكل مسارات تصنيعية، الهدف منها تجميع هيكل السيارة كاملاً في النهاية، وذلك في وقت قصير.
إذ يكون لكل مجموعة أشخاص مهمة واحدة في مرحلة تصنيع السيارة، يقومون بالعمل عليها طول الوقت دون تغيير المهمة، وبهذه الطريقة أصبح العمل سهلاً وسريعاً.
وبعد نجاح هذه الطريقة في التصنيع، نجحت الشركة في أن تصبح معتمَدة لدى العديد من الشركات، سواء في عالم السيارات أو غيرها، وما زالت معتمَدة إلى يومنا هذا، مع تطويرها، رغم مرور أكثر من قرن على اعتمادها لأول مرة.
الوجه الآخر لحياة هنري فورد
إضافة إلى نجاحه كرائد أعمال، أظهر هنري فورد أيضاً التزاماً قوياً بالتعليم ورفاهية المجتمع، حيث أنشأ مدارس تقدم نهجاً فريداً للتعلم، حيث جمعت بين التدريس التقليدي في الفصول الدراسية والخبرة العملية والعلمية، والتي تسمى "التعلم من خلال الممارسة".
إذ إن الشركة ولغاية الآن، تحرص على تخصيص جزء من أموالها ليكون منحاً دراسية، إضافة إلى إطلاق مبادرة تسمى "عملية عالم أفضل"، والتي تسعى إلى معالجة عدة قضايا، من بينها الجوع، والإغاثة، والرعاية الصحية.
أما خلال الحرب العالمية الثانية، فلعب هنري فورد عبر شركته "فورد موتور" دوراً حاسماً في دعم جيش الولايات المتحدة، إذ قام بإنتاج العديد من المعدات والمركبات العسكرية، مثل سيارات الجيب والقاذفات والدبابات، التي كانت ضرورية للحرب.
ومن جهة أخرى كان فورد معادياً لليهودية، وكان قد أعلن عن ذلك من خلال كتاب نشره سنة 1920، يحمل عنوان "اليهودي العالمي أكبر مشكلة في العالم".
فيما كان ضد نقابات العمل الأمريكية، التي كانت تكثر من الإضرابات، التي كانت تؤدي إلى تأخيرات في الإنتاج؛ وهو ما دفعه إلى استقطاب عمال من خارج أمريكا لا علم لهم بالعمل النقابي.