خطّط خبراء التسويق جيداً لتوريطنا في حب القهوة، عبر الإعلانات الترويجية لها. وقد ساعدهم في ذلك عولمة ثقافة الاستهلاك والإقبال على الأماكن العامة للاسترخاء، إضافةً إلى شيوع الوظائف الذهنية والعمل من المنزل.
حتى أصبحت القهوة جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية، وفي المرتبة الثانية -بعد الماء- في قائمة أكثر المشروبات استهلاكاً في العالم، بتقديراتٍ تجاوزت 500 مليون كوب يومياً. كما بلغت الإيرادات في قطاع القهوة عالمياً نحو 495 مليار دولار أمريكي في العام 2023 (حتى اليوم).
ما يعني أنه، وبمجرد أن نحتسي كوباً من القهوة -صباحاً أو عصراً- فإن الشركات الكبرى تجني أرباحاً إضافية لا يقاسمها فيها أحد. لكن هذه الحقيقة ليست الوحيدة عن نبيذ الإسلام.
هل تعلم أنه يتمّ تسخير ملايين المزارعين من حول العالم لإنتاج وصناعة القهوة، في ظروف عمل لا إنسانية، لا بل أقرب إلى العبودية؟ يحق لك بالطبع أن تعتبر هذا الحديث مملاً، وأن تقول إن طبيعة الأشياء تمضي هكذا، لأن الأشياء الجميلة غالباً ما يكون وراءها تاريخٌ دامٍ.
لكن إذا أردتَ أن تعرف ما يسبّبه كوبٌ من القهوة من مآسٍ لحياة العاملين في صناعة القهوة، التي صارت تُقدّم كسلعةٍ معزولة عن تاريخها الدامي، وعن أيدي منتجيها.. تعالَ معنا في هذه الرحلة.
تاريخ القهوة في "استعباد الملوّنين"
يعود اكتشاف القهوة إلى ما يقارب الألف سنة من الآن، وقد انتشرت روايات مختلفة عن تاريخ القهوة كانت أقرب إلى أساطير، روّجتها الإمبراطورية البريطانية، وربطتها بإثيوبيا (الحبشة قديماً).
لكن الحقيقة أن أول إشارة لاستخدام شجرة البن، وطبخ حبوبها، والاستفادة منها، تأتي من اليمن. فالتاريخ واضح في هذا الإطار، الصوفية اليمنية هي أول من اكتشف نبتة البن التي تنتج القهوة في القرن 15، وأول من عرف وشرب القهوة بشكلها الحالي.
من اليمن انتشر البن إلى العالم كلّه، وبحلول القرن 16 صارت القهوة سلعة رئيسية في العالم العربي.
عرف الأوروبيون القهوة للمرة الأولى في أواخر القرن 17، بعد سنوات من احتكار الإمبراطورية العثمانية لصناعة القهوة وتجارتها، حين تمكن الهولنديون من سرقة مجموعة من البذور الحية ونقلها إلى مستعمراتهم في إندونيسيا.
ومنذ ذلك التاريخ، ستبدأ عملية استغلال الإنسان من أجل رفاهية الإنسان الآخر. بدأ ذلك في جزيرة جاوا؛ حيث خصّص الهولنديون مساحات شاسعة من الأراضي لزراعة البن، بعد أن احتلّوها وأجبروا أصحاب الأرض (الإندونيسيين) على العمل في المزارع بطريقةٍ وحشية.
كان الهولنديون يعتبرون أن الموت تكلفة مقبولة لإنتاج هذا المحصول الجديد، شديد الربحية، حتى إن قرى بأكملها قد هلكت نتيجة هذه السياسة.
بحلول منتصف القرن 18، لم تعد تكفي المستعمرات الإندونيسية لتغطية الطلب على القهوة، فانضمّ بقية المستعمرين -مثل: بريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا، والبرتغال- إلى نادي تجارة القهوة، فشُحن ملايين "العبيد" من غرب إفريقيا إلى مزارع البن ومصانع القهوة في منطقة البحر الكاريبي والأمريكتين.
ومع نهاية القرن، كان نصف إنتاج القهوة في العالم يأتي من عمل العبيد الأفارقة، الذين أحضرهم الفرنسيون إلى هايتي.
على مدار 400 عام، نُقل نحو 11 مليون أفريقي مثل البضائع على متن سفن، وقضوا ما بقوا من حياتهم عبيداً من أجل تجارة البن، التي حفزت النجاح الاقتصادي والسياسي للمستعمرات الأوروبية.
لاحقاً في القرن 19، صارت البرازيل تستحوذ على 30% من إنتاج القهوة العالمي، بفضل مجهود ما يقارب مليوني شخص تمّ استعبادهم من إفريقيا. وما قد لا يعرفه كثيرون أن متوسط العمر المتوقع للعامل في حقول البن لا يتعدى الـ7 سنوات فقط.
اتسمت ظروف العمل باللا إنسانية، والتعذيب، وسوء الرعاية الصحية؛ ولم يكن المستعمرون والتجار ومالكو المزارع يبالون بحياة العمال، ورأوا أن استيراد العبيد الجدد أرخص من إنفاق الأموال لتوفير ظروفٍ كريمة تُبقي "العبيد القدامى" على قيد الحياة.
عمل قسري وأجور لا تكفي
المذاق المُر والجذاب لهذا المشروب الساحر يخفي وراءه مُرّاً أكبر، يعيشه نحو 125 مليون شخص من العاملين الكادحين في هذه الصناعة، يتوزعون على 50 دولة في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا؛ جميعهم تقريباً من السود، وذوي البشرة الملونة.
زراعة البن تحتاج إلى عملٍ يدوي كثيف، يشمل أنشطة القطاف والفرز والتقليم وإزالة الأعشاب الضارة والتسميد ونقل المنتجات. خلال كل هذه المراحل، يعيش العمال تحت ظروفٍ قاسية مع حرارةٍ استوائية شديدة، ويعملون لساعات طويلة قد تصل إلى 10 ساعات يومياً.
ويرافق كل هذا التعب البدني مشاكل صحية يعانون منها، بسبب المواد الكيميائية الخطيرة التي تُستخدم في الزراعة، ناهيك عن حرمان بعض العمال من الحصول على ما يكفي من الطعام، والمياه النظيفة، ومعدات السلامة الأساسية.
من شروق الشمس إلى غروبها، ينكبّ العمال والمزارعون على ظهورهم في المراحل المختلفة لإنتاج وقطف البن، الذي نستمتع بمذاقه. والجدير ذكره أن كل العمل ما زال يتمّ بشكلٍ يدوي، بدءاً من اختيار الثمار الناضجة، إلى حمل أكياسٍ قد تزن أكثر من 50 كلغ لأميالٍ طويلة، حتى أسفل سفوح الجبال شديدة الانحدار.
في مقابل كل هذا العمل الشاق، لا يحصل العاملون في صناعة القهوة على مقابلٍ مادي "آدمي" ومنصف، إنما بنسات قليلة فقط لا تكفي لإعالة نفسهم، قبل أسرهم.
في جواتيمالا مثلاً لا يتخطى أجر جامعي البن أكثر من ثلاثة دولارات يومياً، لا تغطي نفقات العودة إلى المنزل؛ ما يضطر العمال إلى المبيت في المزارع لأيام عديدة، فضلاً عن دوامة الديون المستمرة التي يدخلونها من أجل تغطية أبسط نفقات المعيشة.
خلال موسم الحصاد، يتجمع عدد كبير من العمال ليناموا على أرضيات قذرة ضيقة، لا مراحيض مجهزة فيها ولا غرف للاستحمام، ما يضطرهم إلى استخدام الحقول والأنهار القريبة لقضاء الحاجة.
وبالطبع يفتقر هؤلاء عادةً إلى أي إجراءات احترازية لحمايتهم من الثعابين السامة، أو أي أخطار طبيعية أخرى قد يتعرضون لها خلال ساعات العمل الطويلة والمتعبة.
فنجان القهوة في يدك قد يكون ثمنه معاناة طفل
بسبب الفقر المدقع وتدني الأجور، عادةً ما يقرر الآباء العاملون في مزارع البن سحب أبنائهم من الدراسة وإلحاقهم بالعمل معهم؛ ما يهدّد مستقبلهم ويعرّضهم لمشكلات صحية ونفسية كبيرة.
تشير الإحصاءات إلى أنه، في البلدان التي تنتشر فيها زراعة البن، فإن حوالي 20% من الأطفال يقعون ضحية الاستغلال في العمل.
ففي العام 2020 مثلاً، أشار تحقيقٌ صحفي نشرته صحيفة The Guardian البريطانية إلى تورط شبكات زراعة البن بتشغيل أطفالٍ، تحت عمر 8 سنوات، في مزارع البن مقابل أجرٍ زهيد.
كانت هذه المزارع تزوّد كبار مصنعي البن؛ مثل: "نسبريسو"، و"نسله"، و"ستارباكس"؛ ما أثار انتقاداتٍ كبيرة ودفع بالممثل الأمريكي جورج كلوني إلى انتقاد شركة "نسبريسو" علناً، بعدما كان الوجه الإعلاني لها على مدار سنوات.
كما أفاد تقرير لـ"وزارة العمل الأمريكية" أن عدد الأطفال العاملين في زراعة البن بفيتنام يُقدّر بأكثر من 34 ألفاً، 13 ألفاً منهم تحت سن 15 عاماً.
أما في كوت ديفوار، فغالباً ما يتعرّض الأطفال إلى الاختطاف والعمل القسري. يُنقلون من دول الجوار؛ مثل: بنين، ومالي، وتوغو، وبوركينا فاسو، إلى مزارع البن؛ حيث يتمّ تجنيدهم للعمل بالسخرة، أو مقابل أجرٍ هزيل جداً.
فيمكثون لمدةٍ تصل إلى ثلاث أو أربع سنوات، قبل أن يُسمح لهم بالعودة إلى بلادهم، وطبعاً يعاني الكثير منهم من الجوع والمرض، ويُهدّدون بالعنف في حال فكّر أحدهم العودة إلى بلاده من دون إذن.