تواصل السلطات المصرية أعمال الإزالة التي تستهدف جنوب القاهرة بغرض إنشاء جسر مروري جديد، وتدخل في خطة الإزالة منطقة المقابر القديمة التي تضم رفات عدد من الأعلام والمشاهير المصريين، منهم الشاعر والوزير السابق محمود سامي البارودي، الملقب بـ"رب السيف والقلم". إذ وضعت السلطات علامة الإزالة على القبر الموجود في مدافن السيدة نفيسة.
من هو محمود سامي البارودي؟
يوصف البارودي بأنه رائد مدرسة البعث والإحياء في الشعر العربي الحديث، فضلاً عن ذلك يعتبر واحداً من زعماء الثورة العرابية.
ولد البارودي في القاهرة عام 1839 لأبوين من أصل شركسي من سلالة المقام السيفي نوروز الأتابكي، ونشأ في كنف أسرة ثرية تملك شيئاً من السلطان، فقد كان والده ضابطاً في الجيش المصري برتبة لواء، وعُيّن مديراً لمدينتي بربر ودنقلا في السودان، وقد توفي والده هناك عندما كان البارودي لا يزال صبياً في السابعة من عمره.
نظراً إلى أوضاع أسرته الميسورة، فقد تلقى البارودي تعليماً جيداً، فقد درس الفقه والتاريخ والحساب وحفظ القرآن الكريم. التحق البارودي عندما كان في الثانية عشرة من عمره بالمدرسة الحربية ودرس فيها فنون الحرب، وقد تخرج في المدرسة برتبة "باشجاويش" لكنه لم يستطع استكمال دراسته العليا، فقد التحق بالجيش السلطاني.
وظهر ولهه بالأدب والشعر العربي في وقت مبكر، فقد كان عاشقاً للشعراء المُجددين مثل أبي تمام والبحتري والشريف الرضي والمتنبي وغيرهم.
رب السيف والقلم
توجه البارودي في وقت مبكر من حياته لكتابة الشعر، وقد كان محباً لقراءة دواوين الشعر العربي وحافظاً لكثير منها.
وقد تأثر شعر البارودي بالنهضة الأدبية في العصر الحديث والتي أظهرت الاختلافات بين القديم والجديد؛ وجاءت نتيجة الاتصال بأوروبا عن طريق زيادة عدد المبتعثين الذين تخصصوا في فروع الأدب بالجامعات الغربية.
ويعتبر البارودي أول من كتب مقدمة لديوان شعري في العصر الحديث.
وقد وصف في أشعاره محطات متعددة من حياته منها اشتراكه في الحملة العسكرية التي ساندت الجيش العثماني في إخماد الفتنة التي نشبت في جزيرة كريت، وقد كتب البارودي واحدة من أبرز قصائده في وصف تلك المهمة التي استمرت لمدة عامين، ويقول في مطلع القصيدة:
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان وهفا السرى بأعنة الفرسان
والليل منشور الذوائب ضارب فوق المتالع والربا بجران.
لا تستبين العين في ظلماته إلا اشتعال أسِنَّة المران
الوزير البارودي
عمل البارودي في بداية حياته المهنية بوزارة الخارجية، وسافر إلى الأستانة عام 1857 حيث أتقن هناك اللغتين التركية والفارسية، كما اطلع على أبرز الأعمال الأدبية باللغتين وحفظ كثيراً من أشعارهما.
وبقي يعمل في وزارة الخارجية التركية مدة سبع سنوات. لكن، لما قدم الخديوي إسماعيل إلى العاصمة العثمانية بعد توليه العرش، تعرف على البارودي وألحقه بحاشيته، إذ عيَّنه في ديوانه مساعداً لأحمد خيري باشا، وكانت مهمته إدارة المكاتبات بين مصر والأستانة.
لكن البارودي لم يصبر كثيراً على رتابة العمل في الديوان وقرر الالتحاق بالجيش، وبالفعل تم تعيينه هناك برتبة بكباشي "مقدم"، وفي هذه الفترة سافر إلى جزيرة كريت مع حملة عسكرية لمساندة العثمانيين ومكث هناك عامين، وعند عودته تم نقله إلى المعية الخديوية وعُيّن بمنصب المرافق الشخصي الخاص للخديوي إسماعيل.
بقي البارودي في هذا المنصب مدة ثمانية أعوام وعاد ليتنقل في المراتب بالقصر، ثم قرر تركه والعودة إلى الخدمة العسكرية.
وفي تلك الفترة شارك البارودي في البعثة الضخمة التي أرسلتها مصر لمساندة العثمانيين في حربهم ضد روسيا ورومانيا وبلغاريا والصرب.
حلت الهزيمة بالعثمانيين في تلك الحرب، فعاد البارودي إلى مصر لنتم ترقيته إلى رتبة لواء؛ نظراً إلى جهوده في ساحة المعركة.
بعد ذلك تقلد البارودي منصب محافظ الشرقية ثم محافظ القاهرة وكان ذلك في فترة حرجة من تاريخ مصر، فقد كانت البلاد غارقة في الديون وبدأت تشهد تدخلات فرنسية وبريطانية في سياستها، لتنشط بعد ذلك الحركات الوطنية وليظهر تيار الوعي الذي يقوده جمال الدين الأفغاني.
مرت مصر في تلك الفترة بالعديد من الأحداث، منها عزل العثمانيين للخديوي إسماعيل وتولية ابنه توفيق مكانه، والذي قام بالقبض على الأفغاني، في ذلك الوقت كان البارودي وزيراً للمعارف والأوقاف، وقد بقي في هذا المنصب حتى عام 1881، إذ تولى بعدها نظارة الحربية، وبدأ البارودي في إصلاح القوانين العسكرية مع زيادة رواتب الضباط والجند، لكنه لم يستمر في المنصب طويلاً، فخرج من الوزارة بعد تقديم استقالته في العام نفسه نتيجة لتوتر العلاقات بينه وبين الخديوي.
وفي عام 1882 تولى رئاسة النظارة إلى جانب نظارة الداخلية، وكان أول رئيس وزراء في تاريخ مصر لم يعينه الخديوي بل ينتخبه مجلس النواب، ومن أجل ذلك أطلقت على وزارته اسم وزارة الثورة أو الوزارة الوطنية.
نفي البارودي وموته
تم الكشف عن مؤامرة حاكها بعض الضباط بهدف اغتيال البارودي وأحمد عرابي، قائد الثورة العرابية الداعية إلى رفض التدخل الأجنبي في مصر، فتم تشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة هؤلاء الضباط وتجريدهم من رتبهم العسكرية ونفيهم إلى السودان. لكن لما رفع البارودي الحكم إلى الخديوي توفيق رفض المصادقة عليه، وجاء هذا الرفض بتحريض من القنصل الفرنسي والقنصل البريطاني.
غضب البارودي، وعرض الأمر على مجلس النظار، فقرر أنه ليس من حق الخديوي أن يرفض قرار المحكمة العسكرية العليا وفقاً للدستور، ثم عرضت الوزارة الأمر على مجلس النواب، فاجتمع أعضاؤه في منزل البارودي، وأعلنوا تضامنهم مع الوزارة، وضرورة خلع الخديوي ومحاكمته إذا استمر على هذا المنوال.
انتهزت إنجلترا وفرنسا هذا الخلاف، وحشدتا أسطوليهما في الإسكندرية وقدم قنصلاهما مذكرة بضرورة استقالة الوزارة، ونفي عرابي، وتحديد إقامة بعض زملائه، وقد قابلت وزارة البارودي هذه المطالب بالرفض في الوقت الذي قبلها الخديوي توفيق، وتحت هذه الضغوط لم يكن أمام البارودي سوى الاستقالة.
تطورت الأحداث بعد استقالة البارودي وانتهى الأمر بدخول الإنجليز مصر، والقبض على زعماء الثورة العرابية وكبار القادة المشتركين فيها، وحُكِم على البارودي وستة من زملائه بالإعدام، ثم خُفف إلى النفي المؤبد إلى جزيرة سرنديب في سريلانكا حيث بقي هناك أكثر من سبعة عشر عاماً.
تمكن البارودي بعد هذه المدة من العودة إلى مصر، حيث اعتزل العمل السياسي بعد أن أعياه المرض، وفتح منزله للشعراء والأدباء الذين تأثروا بشعره وكان منهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وإسماعيل صبري والذين أسسوا لاحقاً مدرسة النهضة أو مدرسة الإحياء في الشعر العربي الحديث.
وأمضى البارودي ما تبقى من حياته على هذا المنوال إلى أن توفي في القاهرة عام 1904.