في اللحظة التي وقّع فيها الأمير عبد القادر سنة 1847 على معاهدة لاموريسيير، التي أعلن من خلالها استسلامه، كانت فرنسا تعتقد أنّها نجحت في القضاء على ثورات ومقاومة الجزائريين، لكنها تفاجأت باندلاع عشرات الثورات الشعبية في مناطق واسعةٍ من الجزائر، كانت ثورة الشيخ أحمد بوزيان والتي تسمى بـ ثورة الزعاطشة واحدةً من هذه الثورات التي كبّدت الفرنسيين خسائر هائلة، والتي اندلعت بعد سنتين من نهاية مقاومة الأمير.
وعلى الرغم من أنّ هذه الثورة لم تدم طويلاً إذ دامت فقط 4 أشهر من 16 يوليو/تموز إلى 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1849م، إلا أنها أرّقت المحتل الفرنسي، ودفعته إلى استعمال القوة الغاشمة في سبيل وأدها، كما أنّه قام بالانتقام من قادة هذه الثورة بقطع رؤوسهم والاحتفاظ بها داخل متحف الإنسان بباريس طيلة 171 سنة، قبل أن تسترجعها الجزائر سنة 2020، وتعيد دفنها.
أحمد بوزيان الساقي الذي أراد تحرير منطقة الزيبان
أحمد بوزيان بن إسماعيل، ولد سنة 1799 ينحدر من أسرة معروفة في بسكرة من عرش الذواودة، نشأ نشأة إسلامية محافظة، فقد حفظ القرآن الكريم وهو في سنٍّ مبكرة، قبل أن يستقر في إحدى زوايا منطقة الزيبان؛ حيث تفقّه في المذهب المالكي.
في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وفي الوقت الذي سقطت فيه الجزائر في يد الاحتلال الفرنسي، سافر الشيخ أحمد بوزيان إلى الجزائر العاصمة؛ حيث اشتغل في مهنة السقي، وهي إحدى المهن التي احتكرها سكان منطقة الزيبان حتى صارت مهنة تقليدية، هناك كان الشيخ أحمد بوزيان مع الاحتكاك الأوّل مع الاحتلال الفرنسي؛ حيث زاد غضبه وحزنه على مصير الجزائر.
وبعد سنواتٍ قليلة، عاد أحمد بوزيان إلى منطقة الزيبان، ليعمل في زراعة نخيل التمر، بحيث كانت منطقة الزيبان تشتهر بهذا النوع من الزراعة، ومنها ظهر أجود أنواع التمور في العالم؛ تمر دقلة نور.
وفي الوقت الذي شرع فيه الأمير عبد القادر في تأسيس دولة الجزائر الحديثة، عيّن الشيخ أحمد بوزيان مسؤولاً محلياً على منطقة الزعاطشة في بداية أربعينات القرن التاسع عشر، وحتى سقوط منطقة الزيبان في يد الاحتلال الفرنسي سنة 1844.
صديق الأمير عبد القادر، والذي تحالف مع خصومه من أجل الثورة على فرنسا
وفقاً لمذكرة جامعية بعنوان: "ثورتا الزعاطشة 1849 والعامري 1876 في الزيبان- دراسة مقارنة"، كانت فترة تولي الشيخ أحمد بوزيان لمسؤولية منطقة الزيبان وواحة الزعاطشة، أولى تجارب بوزيان في القيادة، فقد بدأت سمعة بوزيان في الانتشار بين القبائل والعروش الجزائرية المتاخمة للصحراء، وزاد نفوذه بين سكان واحة الزعاطشة في الاتساع.
ومع سقوط بسكرة وعموم منطقة الزيبان بيد الاحتلال الفرنسي، وتفاقم انتهاكات الفرنسيين ضد السكان، بدأ الشيخ بوزيان في التفكير الثورة.
أخذ بن بوزيان ينشط في التحضير لثورته، فاستدعى رؤساء القبائل والعروش وجاءته الوفود من كل جهة لتدارس الأوضاع وتهيئة الشروط الضرورية للثورة؛ مثل جمع المال وشراء السلاح وتخزين المؤن وغير ذلك، بعدها انتقل الشيخ أحمد بوزيان إلى مرحلةٍ أخرى للتحضير لثورته، وذلك بقيامه بإثارة السكان ضد الاحتلال الفرنسي بعدم دفع الضرائب، واستمرّ في ذلك من شهر مايو/أيار 1849، إلى غاية إعلان ثورته في يوليو/تموز من نفس السنة.
تزامن تحضير بوزيان للثورة مع تعرّفه على أحد واحدٍ من أهم قادة الجهاد في الجزائر، وهو الشيخ المصري موسى الدرقاوي الذي كان شيخاً للطريقة الدرقاوية الصوفية بالجزائر.
وعلى الرغم من أنّ موسى الدرقاوي كان خصماً للأمير عبد القادر، ودخل في عدة معاركٍ ضده؛ إذ سبق وأن دعا الدرقاوي أتباعه إلى الجهاد ضد الأمير عبد القادر بسبب توقيعه على هدنة دي ميشال سنة 1834، إلّا أنّه صار مقرباً ومستشاراً عسكرياً لأحد رجال الأمير عبد القادر، وهو الشيخ أحمد بوزيان، والذي اتبع الطريقة الدرقاوية واتخذ أبو موسى الدرقاوي خليفةً له في منطقة الزيبان.
قائد ثورة واحة الزعاطشة، التي حرقتها فرنسا انتقاماً منه
في تلك الأثناء، شرعت السلطات الفرنسية في استباق ثورة الجزائريين في منطقة الزيبان، وكلّف الحاكم الفرنسي العام بالجزائر، أحد ضباطه وهو الضابط سيروكا بالتحرك نحو مدينة بسكرة من أجل إلقاء القبض على الثائرين.
واصطحب الضابط سيروكا معه شيخ منطقة طولقة ابن ميهوب والقايد بن قانة وبعض رجاله من الفرسان وتوجه إلى واحة الزعاطشة؛ حيث وجدوا الشيخ محمد بوزيان يتجوّل وحده في الواحة، وحاولوا اعتقاله، لكنهم فشلوا بعد أن كان أتباعه يحرسون شيخ بوزيان من بعيد.
بعد تلك الحادثة، بدأت نوايا الاحتلال الفرنسي في إخضاع واحة الزعاطشة تأخذ أبعاداً أكثر قوة، فقرر الاحتلال الفرنسي الهجوم على واحة الزعاطشة في الـ16 يوليو/تموز 1849، لتندلع إثرها ثورة الزعاطشة بقيادة الشيخ أحمد بوزيان، وهي واحدةٌ من أقوى الثورات الشعبية في تاريخ الجزائر الحديث، وفقاً لمقال أكاديمي بعنوان: "مقاومة الشيخ بوزيان بالزعاطشة 1849، على ضوء الكتابات الأجنبية".
في البداية قام الجيش الفرنسي بإطباق حصارٍ خانقٍ على واحة الزعاطشة، عاصمة الشيخ بوزيان، لكن فشل حصار الجيش الفرنسي للشيخ بوزيان ورجاله، وذلك بفضل مقاومة الواحة وصول المدد من الأعراش والقبائل والزوايا.
وخلال فترة الحصار، قُتل الحاكم العسكري لمنطقة بسكرة "سانت جيرمان" في معركة واد براز بالزاب الشرقي في 21 سبتمبر/أيلول 1849، بالإضافة إلى الخسائر الأخرى في أعداد قتلى الجنود الفرنسيين الذين كانوا يسقطون يومياً بسبب ضربات مقاومة الشيخ أحمد بوزيان، وهو ما أثار غضب المحتل الفرنسي.
أمام الفشل الفرنسي، توجهت السلطات الفرنسية إلى تكليف الضابط "هيربيون" وهو حاكم قسنطينة شخصياً، الذي قدم إلى الواحة برفقة 4 آلاف جندي فرنسي وعددٍ كبيرٍ من المتعاونين للقضاء على مقاومة الزعاطشة.
لم يكن أمام الاحتلال الفرنسي وضابطه هيربيون إلا الإبادة الشاملة لواحة الزعاطشة من أجل الانتصار على الشيخ أحمد بوزيان الذي تحصّن في الواحة.
ففي 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1849 نسف الجيش الفرنسي دار الشيخ بوزيان فسقط شهيداً، وأمر القائد العسكري الفرنسي "هيربيون" بقطع رأس الشيخ بوزيان، ورأسي ابنه والشيخ موسى الدرقاوي وتعليقهم على أحد أبواب مدينة بسكرة، ثم أرسلت جماجم بوزيان والدرقاوي إلى متحف باريس مع جماجم أخرى.
وخلال هجومها على واحة الزعاطشة ارتكبت فرنسا واحدةً من أبشع مجازرها في الجزائر، فقد أعدم الجنود الفرنسيون المئات من مقاتلي الشيخ بوزيان، كما أجهزوا على الجرحى والعجزة والرضع في الواحة، ووصلت حصيلة القتلى من السكان نحو ألف قتيلٍ، في وقتٍ لم يتجاوز عدد سكان الواحة 1500 نسمة، ولم تكن جرائم فرنسا موجهةً إلى الإنسان فقط، فقد قطع الفرنسيون حوالي 10 آلاف نخلة من الواحة التي كانت تحتوي على 17 ألف نخلة، كما أحرق الجيش الفرنسي واحة الزعاطشة انتقاماً من ثورة الشيخ أحمد بوزيان.
احتفظ الفرنسيون برأس الشيخ أحمد بوزيان، طيلة 170 سنة داخل متحف الإنسان بباريس، وانتظر الجزائريون حتى سنة 2020 لاسترجاعها.
ففي 2 يوليو/تموز 2020، حطت طائرة جزائرية تحمل رفات 24 مقاوماً جزائرياً من بينهم رأس الشيخ بوزيان والشيخ موسى الدرقاوي، ليتمّ دفنها في الخامس من يوليو 2020 مربع الشهداء بمقبرة العالية بالجزائر العاصمة، في جنازة رسمية وشعبية.