تعدّ مدينة تستور التونسية واحدةً من أقدم المدن الأندلسية في المغرب العربي، فبعد سقوط الأندلس، هاجر تباعاً عشرات الآلاف من مسلمي الأندلس إلى تونس، حيث أسس جزءٌ منهم هذه المدينة التونسية العريقة، وأسسوا فيها الجامع الكبير الذي زيّن بساعة تستور العجيبة.
هذه الساعة التي تعدّ اليوم من أشهر معالم مدينة تستور، تميّزت بهندستها الفريدة التي جعلت عقاربها تدور من اليمين إلى اليسار عكس كل ساعات العالم، فما سرّ هذه الساعة الغريبة؟
تستور.. مدينة أندلسية في قلب تونس
تقع بلدة تستور التونسية على هضبة في حوض وادي مجردة في ربوع الشمال الغربي لتونس، تبعد 76 كيلومتراً عن العاصمة تونس، و تستمد شهرتها من تاريخها الأندلسي العريق، إذ تعدّ من أعرق البلدات الأندلسية في بلدان المغرب العربي، إذ أسسها الأندلسيون المهاجرون عام 1609، إذ وصل إلى تونس مع بداية القرن الـ17 أزيد من 80 ألف مهاجر موريسكي، استقر أغلبهم في هضبة تستور، وشرعوا في بناء مدينة خاصةٍ بهم.
وكان أوّل ما بناه المهاجرون الأندلسيون في مدينة تستور، هو الجامع الكبير الذي يتوسط المدينة، كما نشروا الطابع المعماري الأندلسي في أرجاء المدينة، وحتى ثقافتهم، فلحدّ الساعة لا تزال مدينة تستور تشتهر بموسيقى تعرف في تونس "بالمالوف"، حيث ينظم مهرجان سنوي للاحتفاء بهذا اللون الغنائي الأندلسي المميز.
لكن أبرز المعالم الأندلسية التي شيّدها الموريسكيون لم تكن سوى ساعة عجيبة في صومعة الجامع الكبير، هذا الجامع الذي كان بحدّ ذاته كان أحد المعالم المميزة لهذه المدينة، فقد كان المسجد الوحيد الذي جمعت صومعته بين المذهبين المالكي والحنفي في الفترة العثمانية.
ساعة تستور المعكوسة.. صممها مهندس أندلسي قبل 4 قرون لتحكي محنة الأندلسيين
بعد 21 سنة من استقرار المهاجرين الأندلسيين في تستور وتأسيسهم لهذه المدينة التاريخية، وبنائهم للجامع الكبير، كانت مشاعر الشوق إلى العودة إلى الوطن من جهة، والحزن والخوف مما حدث الأندلسيين بعد سقوط الأندلس وتطبيق الممالك المسيحية الإسبانية لمحاكم التفتيش على مسلمي الأندلس من جهة أخرى، لا تزال حيّة في المهاجرين الأندلسيين.
فقد عبّر عن تلك المأساة المهندس الأندلسي محمد تغرينو، أحد الأندلسيين الذين وفدوا إلى المدينة بعد هجرتهم من إسبانيا، والذي قام بتصميم ساعة معكوسة ووضعها في صومعة الجامع الكبير سنة 1630، وذلك للتعبير عن مأساة الأندلس.
فتشير الروايات أنّ سبب تصميم المهندس الأندلسي لهذه الساعة المعكوسة، هي التعبير عن رغبة الأندلسيون في العودة إلى ماضيهم في الأندلس، لذلك قاموا بصناعة تلك الساعة كي تكون تعبيراً عن رغبتهم في العودة إلى الوراء.
كما يوجد تفسيرٌ يحمل أبعاداً جغرافية، إذ تشير بعض التفسيرات الآخرى إلى أنّ الطريق من إسبانيا إلى تونس يشبه قوساً (ربع دائرة) ينطلق من الغرب ويتّجه نحو الجنوب الشرقي؛ لذلك فحسب هذا التفسير، فالساعة تحاكي، باتجاه دوران عقاربها، المسار المعاكس للطريق الذي سلكه الأندلسيون نحو منفاهم، مما يعني أن الساعة كانت تحمل رمزية استرجاعية من روايتين على الأقل.
كما أنّ هناك العديد من الروايات الشعبية المحلية التي تفسِّر سرَّ هذه الساعة بزوايا آخرى، مثل الرواية التي تقول إن سرّ دوران عقارب الساعة من اليمين إلى اليسار، يعود إلى كون الأندلسيين كلما أجادوا عملاً يعمدون إلى تشويه جزء منه خوفاً من الحسد.
بينما يذهب بعض المؤرخين في تفسيرهم إلى أنّ تغرينو أراد أن يمنح ساعته طابعاً عربياً وإسلامياً، نظراً لأن الكتابة العربية تتم من اليمين إلى اليسار، كما يتم الطواف حول الكعبة المشرفة من اليمين إلى اليسار أيضاً.
عادت للعمل سنة 2016 بفضل مهندس تونسي
ظلت ساعة تستور المعكوسة والملتصقة بجدار صومعة الجامع الكبير تعمل لعقود، قبل أن تعطل وتصبح مجرد ديكور معلق.
وبقيت الساعة المعكوسة على هذا الحال لأزيد من 3 قرون من الزمن، قبل أن يتطوّع مهندسٌ تونسي يدعى عبد الحميد كوندي، الذي كان يعمل أستاذاً للفيزياء بكلية العلوم بتونس لإعادتها للعمل سنة 2015. وبعد جولةٍ في الصومعة لملاحظة حالة الساعة، وجد كوندي أن آليتها ما تزال محافظة على مكونات الدوران وفق القواعد الفيزيائية التي وضعت بها منذ العام 1630، كما اطلع على الحالة الميكانيكية للساعة الضخمة المعكوسة، وعندها بدأ في عملية الإصلاح وإعادة ترتيب مكوناتها كما كانت، قبل إعلان نجاحه في إعادة الدوران الطبيعي لهذه الساعة سنة 2016.
وكانت سفارة كل من إسبانيا وألمانيا قد ساهمت في عملية ترميم الساعة وإعادة إصلاحها، وذلك من خلال تنظيم عمليات تبرعٍ والمساهمة في جهود المهندس التونسي لإعادة إصلاح ساعة تستور المعكوسة.