رغم مرور آلاف السنين، فإن حضارة مصر القديمة ما زالت تلهم العالم، لا سيما أن الكثير من أسرارها بقيت عصية على العلماء والباحثين، الذين يحاولون فكّ رموزها بشتى الطرق حتى يومنا هذا.
وفي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن علم الآثار يتعلق فقط بدراسة النصوص القديمة والمعابد، وما نُقش ورُسم عليها من صورٍ لحياة الناس قبل آلاف السنين، تطوّر العلم كثيراً وبدأ يكشف لنا تدريجياً عما حدث قبل آلاف السنوات في مصر القديمة.
على مرّ السنوات، شكلت أرض الهيروغليفية والقطط المقدّسة مادةً دسمة للبحث، لكن يبقى الكثير لنتعلّمه، خصوصاً أن الكثير من الأسرار لا تزال مدفونة تحت الرمال. لذلك، ما زال علماء الآثار يحفرون عميقاً من أجل العثور على بعض الإجابات.
حجر رشيد ساهم في اكتشاف حضارة مصر القديمة
هو تلك القطعة الأثرية المصرية الفريدة التي فكّت شيفرة هيروغليفية الفراعنة، وأهم الشواهد على الاستعمار الغربي لمصر.
يكشف حجر رشيد أسرار لغةٍ كانت ضائعة في يومٍ من الأيام، مُسلِّطاً الضوء على حضارة مصر القديمة التي ابتكرت تلك اللغة.
اكتشف الجنود الفرنسيون الحجر عام 1799، وهو يحمل نقوشاً بثلاث لغات: الهيروغليفية، والديموطيقية، واليونانية القديمة. وفكّت اللغات الثلاث المنقوشة على الحجر رموز الهيروغليفية المصرية، التي ظلَّ غموضها مستمراً لقرون.
قام أحد العلماء الفرنسيين، جان فرانسوا شامبليون، بدور محوري في الكشف عن أسرار الحجر؛ إذ أدرك بذكاء، من خلال مقارنته للنصوص الثلاثة، أنَّ الهيروغليفية تمثل أصواتاً لفظية ورموزاً تصويرية معاً. وقد مكَّن عمله الرائد، الذي اكتمل عام 1822، العلماء من قراءة وفهم النصوص المصرية القديمة لأول مرة منذ أكثر من ألف عام.
يبلغ ارتفاع الحجر، أو ما تبقى منه، نحو متر و12 سنتيمتراً. ينتمي إلى عهد سلالة البطالمة اليونانيين، حاكمي مصر، وهم الذين فتحوا البلاد مع الإسكندر الأكبر قادمين من اليونان قبل الميلاد بـ3 قرون. ثم تبنوا لقب "فرعون"، ليضفوا شرعية على حُكمهم أمام السكان المصريين.
نُقش على حجر رشيد نوعٌ من المفاوضات التي كانت تتم، في مدينة ممفيس عام 169 ق.م، بين الملك اليوناني الجديد بطليموس الخامس وكهنة المعابد. وبفضل هذا المرسوم، تحدّد شكل العلاقة بينهم.
يفهرس حجر رشيد بعض إنجازات بطليموس الخامس، مثل هدايا وهبات قدّمها للمعابد، إضافةً إلى التخفيضات الضريبية وإخماد جزء من أعمال التمرّد الداخلية في مصر. فيما تعهّد الكهنة، مقابل تلك الخدمات، بعدد من الإجراءات لدعم بطليموس الخامس، مثل بناء تماثيل جديدة له وتنظيم مهرجانات احتفالاً بعيد ميلاده ويوم اعتلائه العرش.
الطب المصري القديم
يُظهِر الطب المصري القديم، وهو أحد الجوانب المهمة لحضارة مصر القديمة، الفهم الشديد للتشريح البشري ونهجهم المبتكر للرعاية الصحية.
وقد سمح الطب المصري، الذي اشتهر بكونه مزيجاً من العلاجات الروحانية والطبيعية والملاحظة التجريبية، للممارسين الصحيين بمعالجة مجموعة واسعة من الأمراض؛ رغم دحض معظم هذه الممارسات مع صعود الطب اليوناني.
اعتمد المصريون القدماء، من كهنة وجراحين، على مجموعة واسعة من الأدوية هي عبارة عن أعشاب ومعادن ومستخلصات حيوانية في علاج المرضى، وساهمت هذه التجارب -بشكلٍ أو بآخر- بشفاء الناس.
استخدموا تقنيات تشخيصية، مثل الجس والفحص التسمُّعي؛ كما لجأوا إلى علاجات عملية، مثل خياطة الجروح، وتثبيت العظام المكسورة، وثقب الجمجمة.
وتشهد بردية إدوين سميث، التي اكتُشِفَت عام 1862 وتعود إلى عام 1600 قبل الميلاد تقريباً، على تطور المعرفة الطبية في مصر القديمة. وتؤكد على المنهج المنطقي والنظامي للطب، من خلال الملاحظات والحلول العملية.
تُسجِّل هذه الأطروحة الطبية، التي كُتِبَت بالخط الهيراطيقي، التاريخ المرضي لـ48 حالة بدقة، بما يُوفِّر نظرة ثاقبة على تشخيص وتوقع مسار المرض وعلاج الإصابات والأمراض المختلفة.
الحبر الأسود
يعود الفضل في اختراع الحبر الأسود إلى مصر القديمة. وقد أحدث هذا الاختراع ثورة في عالم الكتابة والفن. فقبل الحبر الأسود، عادةً ما كان يُكتب باستخدام الأصباغ الحمراء أو البنية، والتي كانت أقل تنوعاً وأكثر عرضة للبهتان.
المثير للاهتمام أن تركيبة الحبر الأسود كانت تُعتبر سراً مقدساً خاضعاً لحراسة شديدة، ولم تكن معروفة إلا لنخبةٍ قليلة من الكتاب والفنانين، الذين دُرِّبوا كثيراً ليتعلّموا كيفية تحضيرها.
كان يتم إعداد الحبر من خلال طحن مادة الكربون الأسود وخلطها مع مادة مُثبِّتة، عادةً ما تكون الصمغ العربي أو بياض البيض، لإيجاد مزيجٍ أملس وثابت.
سرعان ما أصبح الحبر الأسود وسيلة الكتابة والرسم المفضلة في مصر القديمة، لأنه كان أكثر وضوحاً وأطول ثباتاً من البدائل السابقة. وسمح هذا الاختراع بإبداعات فنية أكثر تفصيلاً وتعبيراً، مثل الهيروغليفية المعقدة والجداريات المذهلة التي تأسرنا حتى اليوم.
الملكات الفرعونيات
قليلات هُنَّ النساء اللواتي ارتدين عباءة الفرعون، فأظهرن قيادةً استثنائية في عالم يهيمن عليه الذكور، لكن بعضهن تميَّزن بالحكمة والدبلوماسية والقوة والإنجازات المعمارية والتقدم الثقافي.
تولَّت حتشبسوت، أشهر حاكمات مصر، الحكم بين عامي 1478 و1458 قبل الميلاد. وقد سيطرت على السلطة بصفتها وصية على ابن زوجها الصغير، تحتمس الثالث، وأعلنت نفسها فرعونة، فاعتمدت اللقب الملكي وارتدت ملابس الرجال.
شهد عهد حتشبسوت مشروعات بناء واسعة النطاق، بما في ذلك معبد الدير البحري المهيب، والبعثات التجارية الناجحة.
بدورها، حكمت نفرتيتي -الملكة الأيقونة- إلى جانب زوجها الملك أخناتون خلال حقبة العمارنة (1353-1336 ق. م). ومع أن مكانتها كفرعونة لا تزال قيد النقاش، تشير الأدلة إلى أنها قد تكون تولت السلطة بعد وفاة أخناتون.
ساهمت نفرتيتي في الثورة الدينية بمصر، فروَّجت لعبادة آتون، أو قرص الشمس.
من بين الملكات الأقل شهرة، تأتي نفرو سوبك، التي حكمت بين عامي 1806 و1802 قبل الميلاد. والملكة تاوسرت، التي حكمت بين عامي 1191 و1189 قبل الميلاد. وجميعهن تخطين أزمات سياسية معقدة في مصر القديمة، وحافظن على الاستقرار والرخاء في ممالكهن.
خدمة البريد
اضطلعت خدمة البريد في مصر القديمة بدورٍ محوري في إدارة حضارة وادي النيل، وهي شاهد على براعة الإنسان وتنظيمه. تأسس هذا النظام نحو عام 2400 ق.م خلال عهد الأسرة القديمة، وقد اعتمد على شبكة من السعاة من أجل النقل السريع للمعلومات.
استخدم هؤلاء السعاة وسائل نقل مختلفة، بما في ذلك القوارب في نهر النيل والحمير، واعتمدوا في أغلب الأحيان على قوتهم البدنية. فسهَّلوا الاتصال بين الفرعون وحكام الأقاليم والعسكريين، عبر اتباعهم محطات تتابع ذات مواقع استراتيجية.
"بر عا"، أو "البيت الكبير"، هو مقر إداري مركزي يُنسِّق إرسال واستقبال الرسائل، وكان يتعامل بصورة أساسية مع المراسلات الحكومية، والمعلومات الاستخباراتية العسكرية المهمة، وسجلات الضرائب.
أظهرت خدمة البريد المصرية نظاماً رائعاً لحفظ السجلات؛ فقد وثق الكتاب بدقة جميع المراسلات على لفافات البردي، وهو ما ضمن إرثاً مستمراً للتواصل الكتابي للحضارة.
وإن لم يكن شاملاً بقدر النسخ اللاحقة في الثقافات الأخرى، إلا أن نظام البريد في مصر القديمة أوجد برنامج عمل للاتصالات الكفؤة والمنظمة، وضع الأساس للخدمات البريدية الحديثة.