ينتشر منذ أيام مقطعٌ من الزجل اللبناني يؤديه زين شعيب، إلى جانب فرقة "زغلول الدامور"، بعنوان "وين الخيل". ومع أن "الرديّة" التي يُلقيها شعيب قديمة جداً، إلا أن هناك من أضاف ريميكس سريعاً إليها، فانتشرت كالنار في الهشيم.
تعرّف جمهور "تيك توك" إلى الزجل مؤخراً، فشبّهه كثيرون بـ"الراب"، لا سيما مع الريميكس المُضاف إلى المقطع المُنتشر. وقد وصل عدد مشاهداته إلى أكثر من 8 ملايين ونصف.
تقول كلمات رديّة "وين الخيل"، المنتشرة عبر "تيك توك":
وين الخيل تشد الحيل تجر الويل حوافرها
نجوم الليل بتاني ميل ببحر جبيل بسّفرها
حصاني صام بدون طعام برأي العام طلبتو لهون
اعطيتو وسام اهديتو لجام بريش نعام 12 لون
ولمّا حام على الإيام من الأيتام مليت الكون
والأخصام بهالصمصام كوام كوام بصبّرها
هذا الانتشار الكبير الذي حققه الفيديو دفع بنا إلى البحث أكثر عن تاريخ الزجل: وهل هو لبناني الجذور، أم الانتشار فقط؟
بعيداً عن "وين الخيل.. ما هي أصول الزجل؟
في العام 2014، أُدرج فن الزجل ضمن "القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية"، الصادرة عن منظمة "اليونيسكو". وقد جاء في تعريف المنظمة لهذا النوع من الفنون أنه "شكل من أشكال الشعر الشعبي اللبناني، الذي يُلقى أو يُغنّى في المناسبات الاجتماعية، والعائلية، والحياة اليومية".
سننطلق من هنا لنؤكد أن هذا التعريف غير دقيق على الإطلاق؛ فهناك شبه إجماعٍ من المؤرخين على أن الزجل هو نوع من أنواع الشعر الأندلسي، حتى أن بعض الباحثين يرجعه إلى الجاهلية الأولى، حين كان حداء الإبل شائعاً.
والحداء هو أحد أشكال التعابير الشفهية التقليدية، كان يستخدمه الرعاة في شبه الجزيرة العربية لمناداة الإبل وجمعها، لأنها تُطرب لسماع هذا النوع من الشعر الغنائي.
الزجل هو شكل تقليدي وشعبي من أشكال الشعر العربي غير الموزون باللغة المحكية، يكون ارتجالياً وعفوياً على شكل مناظرة بين عدة زجّالين، وتكون أبياته مصحوبة بإيقاعٍ لحني لبعض الآلات الموسيقية، أشهرها الدف.
ينتشر هذا الفن بشكلٍ كبير في لبنان، وشمال فلسطين، وشمال الأردن، وغرب سوريا؛ ويسرد الزجّال في شعره ما يحدث في الحياة اليومية، فنجده يتغنى بالوطن والطبيعة. وقد يسرد مواصفات حبيبته، فنجده يتغزل بها. كما أنه قد يتبارى مع منافسه على قدرته وقوته في الارتجال، فنجده يتغنى بنفسه.
انطلاقاً من هنا، فإن الزجّال يتميّز بقدرة كبيرة على الارتجال ويمتلك سرعة بديهة مذهلة وقدرة تعبيرية مثيرة للإعجاب. وهو لا يتقيّد بقواعد اللغة، والإعراب وصِيَغ المفردات، وأوزان البحور.
خلال ندوةٍ نظمها "مركز التراث اللبناني" في الجامعة اللبنانية الأمريكية (LAU) عام 2015، حول الزجل اللبناني، قال الدكتور عدنان حيدر (وله أبحاث كثيرة في الشعر) في تعريف هذا الفن: "إذا كان الشعر يتميز بفتنة البيان، فالزجل يتميز بفتنة النَغَم".
لكن ما هي أصول هذا الفن؟
يمكن تتبع أصل الزجل إلى العصر الجاهلي، فيؤكد بعض الدارسين أن الخنساء كانت من أشهر شعرائه، إلا أن تدوين الزجل بدأ في القرن الخامس أو السادس على يد الشاعر ابن قزمان، واشتهر بفضله ليصل إلى كل بلاد المشرق العربي.
في كتابه "تاريخ آداب العرب"، الذي صدر بنسخته الأولى عام 1911، يُشير مصطفى صادق الرافعي إلى أن ابن خلدون تحدث عن هذا الفن في كتابه الشهير "المقدّمة".
وينسب إلى ابن خلدون قوله: "لما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيها إعراباً، واستحدثوا فناً سمّوه الزجل".
ويُضيف عن لسان ابن خلدون: "التزموا النظم فيه على مناحيهم فجاؤوا فيه بالغرائب، وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان. وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، ولكن لم تظهر حلاها ولا انسكبت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين (أول القرن الثامن) وهو إمام الزجالين على الإطلاق".
وقد شاع زجل ابن قزمان وأولع به الناس، خصوصاً المشارقة، حتى كان مروياً في بغداد أكثر مما هو في حواضر المغرب. ومع ابن قزمان، اشتهر من معاصريه كل من: عيسى البليدي، وأبي عمرو بن الزاهر الإشبيلي، وأبي الحسن المقري الداني، وأبي بكر بن مدين.
ثم جاء بعد هؤلاء عبد الله بن الحاج، المعروف بـ"مدغليس"، وهو خليفة ابن قزمان وقد امتاز عنه بصنعة ألفاظه حتى طارت شهرته بذلك، وكان أهل الأندلس يقولون: "ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء، ومدغليس بمنزلة أبي تمام".
من الأندلس إلى العراق والدول العربية
بسبب سهولة سماعه وبثّه السرور بين السامعين ولقدرته على التفاعل مع اللغات الشعبية المحكية، انتقل هذا الفن من الأندلس إلى المغرب العربي، ومنه إلى المشرق العربي، وبلاد الشام؛ حيث شهد تطويراً في أنواعه.
دخلت اللغات المحلية فيه، وانتظم أكثر في أطر الثقافات المحلية الشعبية التي كانت سائدة، وراح يمدّ جذوره إلى مختلف البلدان العربية، فأصبح لكلّ بلد زجّالوه.
ظهر الزجل التونسي، والخليجي -المعروف بالنبَطي- والمصري. وقد اخترع المصريون فيه نوعين سمّوهما: "البليقة" و"القرقية".
وفي كتابه "الأقصى القريب"، يقول أبو عبد الله محمد التنوخي في كلامه عن الموشحات والأزجال: "ومنها قرقيات المصريين وبليقاتهم، والفرق بينهما وبين الزجل أن الأخير متى جاء فيه الكلام المعرب كان معيباً، أما البليقة ليست كذلك، يجيء فيها المعرب وغير المعرب. ولذلك سُمّيت بليقة، من البلق، وهو اختلاف الألوان".
في كتاب "الزجل في أصله وفصله"، يؤكد الشاعر الزجلي أسعد سعيد أن هذا الفن اللبناني مشتق من العربي، قائلاً: "الزجل في لبنان عربي الوجه والقلب واللسان، هو عربي التراث".
هذه النظرية لا يؤيدها الكاتب أنطوان بطرس الخويري، في كتابه "تاريخ الزجل اللبناني"، ويعتبر أن الشعر الزجلي اللبناني لم يأتِ من الموشحات الأندلسية -المتأثرة بالأدب الإسباني والفرنسي- إنما هو منبثق من الشعر السرياني القديم.
مهما اختلف المؤرخون على أصله وفصله، فالحقيقة أن سكان جبل لبنان أضافوا على هذا النوع من الفنون عدداً كبيراً من ألوان الشعر الشعبي، وتُشير بعض المراجع إلى أنهم أول من أطلق اسم "الزجل" على شعرهم العامي.
قبل ذلك، كان هذا اللون يُعرف باسم "المعنّى" في سوريا ولبنان، و"الحدا" أو "الحدادي" في فلسطين، واستمر وجوده حتى آخر أيام وجود العرب في الأندلس.
وبعد العام 1450، كُتبت الكثير من القصائد الزجلية لكنها لم تُدوَّن. وبحلول منتصف القرن 18، أصبح هناك عددٌ كبير من الشعراء الذين يكتبون الزجل، على رأسهم: وردة الترك، محمد سلطان، رومانوس حنيني وغيرهم.
تتميز جلسات الزجل اللبنانية بالمنافسة الشرسة بين الزجالين، وغالباً ما تأخذ طابعاً طريفاً فيه الكثير من التحدي. يجلس الزجالون امام طاولة طويلة، تتوسطها بعض صحون الخضار أو الفواكه، ويحمل بعضهم الدف لمرافقة الآخرين حين يلقون الشعر الارتجالي.
اليوم، لا يزال الزجل حاضراً في لبنان، لكنه أقرب إلى التراث وجمهوره محصور بالقرى والأرياف، لا سيما مع تراجع تواجد زجّاليه؛ إلا أن أسماءً كثيرة لمعت ولا تزال في هذا الإطار، أبرزها: أسعد الخوري، رشيد نخلة، خليل روكز، موسى زغيب، طليع حمدان، زين شعيب، جوزيف الهاشم (الملقب بـ"زغلول الدامور")، إدوارد حرب، وغيرهم.