مع نهاية القرن الـ18، احتفل الإسبان بمرور 300 سنة على احتلالهم وهران، وخلال تلك الفترة الطويلة، قادت الدولة العثمانية مئات الحملات العسكرية من أجل طرد الإسبان من آخر معاقلهم بالجزائر، لكنّ تلك الحملات فشلت جميعها في تحرير وهران، حتى جاء الباي محمد الكبير سنة 1792، ونجح في تحرير المدينة، وطرد الإسبان نهائياً من الجزائر.
من هو الباي محمد الكبير؟
يعدّ الباي محمد الكبير من أهم الشخصيات التاريخية العثمانية في تاريخ الجزائر، وفقاً لمذكرة بحثية بعنوان "محمد الكبير باي الغرب الجزائري"، فقد وُلد سنة 1739 بمدينة مليانة، التي كان أبوه، الحاج عثمان الكردي، خليفةً عليها، أمّا أمّه فكانت الجارية زائدة، التي أهداها السلطان المغربي مولاي إسماعيل لأبيه.
نشأ محمد الكبير في مرحلة طفولته على يد والده، ثمّ كفله صديق والده إبراهيم الملياني، الذي تكفّل بتنشئته تنشئة دينية وعسكرية.
إذ تعلّم محمد الكبير مختلف العلوم، من القرآن الكريم واللغة العربية إلى التاريخ، وهو شابٌ صغير، كما تدرّب على الفروسية والقتال، موازاةً مع ذلك حتى صار مناسباً للقيادة.
تحت كفالة صديق والده إبراهيم الملياني، تدرّج محمد الكبير في المناصب حتى صار نائباً للملياني في حكم بايليك الغرب، خلالها كانت مجمل النشاطات العسكرية لمحمد الكبير إخضاع القبائل المتمردة عن السلطة العثمانية مع بعض الاحتكاك البسيط مع الحاميات الإسبانية في وهران والمرسى الكبير.
بعد وفاة إبراهيم الملياني سنة 1779، تمّ تعيين محمد الكبير باياً على الغرب الجزائري، حيث استمرّ في المنصب لمدة 10 سنوات.
محرّر وهران من الاحتلال الإسباني الذي دام 300 سنة
بمجرّد اعتلاء الباي محمد الكبير منصب باي الغرب الجزائري، وضع نصب عينيه تحرير وهران من الاحتلال الإسباني، الذي استمر 3 قرون، كأولوية قصوى في أجندته العسكرية، وذلك حسب مقال بحثي بعنوان: "الباي محمد الكبير، باي وهران 1779-1797 حياته، وسيرته".
كان محمد الكبير، قد شرع في عملية تحرير وهران قبل 20 سنة من تنصيبه باياً على الغرب، وذلك منذ 1780، حيث كان ينظّم حملات عسكرية كلّ شهر رمضان لمهاجمة حصون وهران وإطباق حصارٍ على الإسبان بداخلها، وهي الحملة التي كانت أشبه بحرب استنزاف طويلة، ثمّ طوّرها إلى حصارٍ شديدٍ، بدأه سنة 1787 إلى 1790.
ومع توليته على الغرب الجزائري، شرع الباي محمد الكبير في مرحلة حاسمة من تحرير وهران من الاحتلال الإسباني، في البداية ضاعف من حصاره على المدينة، ثم شرع في تكوين جيشٍ خاصٍ للفتح، والاستعانة بالدرجة الأولى بالعلماء.
كان هذا الجيش، الذي شكّله محمد الكبير، يُدعى جيش الطلبة، وكان مكوناً من طلبة الزوايا والعلماء الذين درّبهم محمد الكبير وسلّحهم ليكونوا رأس الحربة للهجوم الأخير على مدينة وهران والمرسى الكبير.
أمام قوة الضربات والحصار الخانق الذي فرضه الباي محمد الكبير على الإسبان في وهران، قامت السلطات الإسبانية بالتفاوض مع الإدارة العثمانية في الجزائر، خلصت المفاوضات في النهاية إلى استسلام الإسبان، وتسليم مدينة وهران والمرسى الكبير للباي محمد الكبير وجنوده.
في الـ27 من فبراير/شباط 1792، دخل الباي محمد الكبير المدينة رفقة عائلته وضباطه وعلمائه وجيشه، وفي اليوم ذاته، توجّه إلى المرسى الكبير، ثم كتب إلى الداي حسن باشا، وسلطان الدولة العثمانية، وأمراء الأقطار الصديقة لإيالة الجزائر، يبشرهم بالفتح الإسلامي الجديد لوهران، وذلك بعد 300 سنة من خضوعها للاحتلال الإسباني.
بسط السيطرة العثمانية على كامل الغرب وشكّل دولة داخل دولة
بعد نجاحه في تحرير وهران، شرع الباي محمد الكبير في تطبيق مشروعه الحضاري بالغرب الجزائري، من خلال تطبيقه جملةً من الإصلاحات الإدارية التي جعلت بايلك الغرب يتمتع بسلطة مركزية، فقد استحدث الباي محمد الكبير منصب الخليفة الذي يحكم منطقة مليانة، كما استحدث منصب الكرسي، وهو أحد يعيّنه لاستخلافه عند غيابه عن وهران.
ثمّ شرع في حملة لإخضاع القبائل الجزائرية في الجنوب الغربي، من أجل توحيد كامل الغرب على سلطته، فقام برحلته الشهيرة إلى الصحراء، وهي الرحلة التي فرضت السلطة العثمانية على كامل الصحراء.
كما نسج الباي الكبير علاقاتٍ نديّة مع مختلف الدول المجاورة والأوروبية، فقد كان يعقد اتفاقاتٍ دولية دون الرجوع دوماً إلى السلطة المركزية في الجزائر.
لم يعتمد الباي محمد الكبير على القوة العسكرية فقط في حكمه مثل بقية الحكام العثمانيين، فقد كان له مشروعه الحضاري الذي كان يتوازى مع نشاطه العسكري، فقد قام الباي الكبير بإنشاء عدة مدارس كبيرة في مناطق مختلفة من الغرب الجزائري، أهمها المدرسة المحمدية بمعسكر، مدرسة خنق البطاح بوهران، وهي المدرسة التي دفن بها الباي محمد الكبير، ومدرسة مازونة التي أخرج المؤرخ الجزائري الشهير أبو راس الناصري، وأخيراً مدرسة تلمسان، وساهمت هذه المدارس والزاويا والمكتبات التي بناها الباي الكبير في تشكيل أرضية مهمة من العلماء الذين نشروا مختلف العلوم وحاربوا الجهل بالمنطقة.
وكان للعمران جانبٌ آخر من المشروع الحضاري لمحمد الكبير، فقد بنى محمد الكبير عدّة مساجد وقصور، أبرزها مسجد محمد الكبير، وقصره الذي لا يزال قائماً إلى اليوم.
كان الباي محمد الكبير طوال فترة حكمه يسارع الزمن من أجل تقوية منطقته، لكن مشروعه انتهى بمجرّد وفاته سنة 1799.