على مدى آلاف السنوات عبر التاريخ، تقف أهرامات الجيزة شاهقة الارتفاع بشموخ؛ لتعكس عظمة الحضارة المصرية القديمة. فعلى الرغم من مرور هذه القرون الطويلة، فإنها لا تزال تحتفظ بأسرارها وغموضها الذي يثير شغف علماء الآثار ويدفعهم إلى محاولة اكتشاف أسرارها.
ولكن أهرامات الجيزة الثلاثة الأشهر، خوفو وخفرع ومنقرع، ليست الوحيدة التي بناها المصريون القدماء، إذ يؤكد علماء الآثار أن عدد الأهرامات المُكتشفة عبر محافظات ومدن مصر حتى اليوم يزيد على 100 هرم متنوع في الشكل والحجم وتقنية البناء.
أهرامات مصر الممتدة عبر المدن
تمتد الأهرامات المصرية من منطقة أبو رواش بالجيزة، وحتى هوارة على مشارف محافظة الفيوم. وهي مبانٍ ملكية بناها قدماء المصريين في الفترة التي امتدت منذ عام 2630 قبل الميلاد، وحتى عام 1530 قبل الميلاد.
وقد تباينت أشكالها وتصميماتها بداية من الهرم المتدرّج مثل هرم زوسر (3630 ق.م. – 2611 ق.م.) في سقارة، وصولاً إلى الهرم مائل الشكل، ثم الكامل المعروف مثل أهرامات الجيزة.
وقد بنى المصريون القدماء الأهرامات بغرض الحفاظ على مومياء الفرعون الحاكم، ومساعدته في رحلته إلى الآخرة وصعوده إلى السماء حيث الحياة الأبدية بعد الموت.
كان قدماء المصريين يعتقدون أن روح الملك تظل ترعاهم حتى بعد مماته، ثم تصعد إلى السماء وتنضم إلى باقي الآلهة؛ ومن ثم يمكنه رعاية الأحياء على الأرض بإرسال فيضان النيل، الذي يمنحهم الرخاء ويمنع عنهم الشرور.
الهرم لحفظ روح الفرعون وضمان نعيمها الأبدي
خلال فترة الدولة الفرعونية القديمة (2585 ق.م. – 1640 ق.م.) كان الكهنة والفنانون المصريون ينقشون بالهيروغليفية نصوصاً مقدسة عُرفت بنصوص الأهرامات، أو (Pyramid Texts)، وذلك على جدران حجرة الدفن للمومياء الملكية.
كانت تلك النصوص عبارة عن تعليمات وتراتيل يتلوها أمام الآلهة عند انتقال الفرعون للعالم الآخر، وكذلك تعاويذ لتحرسه بعد انتهاء الحياة الدنيا.
اختلاف أحجام الأهرامات المصرية
بنهايات الدولة القديمة، تضاءل حجم الأهرامات تدريجياً بسبب التكاليف المادية والبشرية، فبُنيت جميع الأهرامات اللاحقة أصغر من هرم خوفو.
لهذا أصبحت الأهرامات في الدولة الفرعونية الوسطى (2630 ق.م. – 1640 ق.م.) تُبنَى بالطوب اللبن المصنوع من الطين والقش، وكانت أضلاع الأهرامات الأربعة تتعامد مع الاتجاهات الأصلية الجغرافية الأربعة (الشمال والجنوب والشرق والغرب).
كما شُيدت معظم الأهرامات في الصحراء غربي نهر النيل، حيث خلفها تغرب الشمس. وذلك لأن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن روح الملك الميت تترك جسمه لتسافر عبر السماء مع حركة الشمس كل يوم. وعندما تغرب الشمس ناحية الغرب تعود الروح الملكية لمقبرتها بالهرم لتجدد نفسها. لذلك لطالما كانت مداخل الأهرامات في وسط الواجهة الشمالية من الهرم.
أما الفراعنة والملوك الذين خلفوا الملك خوفو، فقد اكتفوا بتشييد مرتفعات حجرية أقل حجماً وفخامة. ويلاحظ الفرق الواضح بين الصروح القديمة للأهرامات العملاقة، وبين المصاطب الخاصة بكبار موظفيهم الموزعة حولها.
كذلك كانت توجد أيضاً أهرامات أخرى أصغر حجماً بجوار هرم الملك لدفن الملكات، وابتداء من حكم الملك أوناس (Unas)، نقشت على جدران حجرة دفن الملك (ثم الملكات بعد ذلك) "متون الأهرامات" أو (Les Textes des Pyramides)، وهي نصوص وعبارات تسمح لأوزوريس الملك بأن يستعيد كماله الجسدي، ويعود إلى السماء ليتقاسم مع الشمس أبديتها، فتكون مصدر غذاء له، وينجو من مخاطر الجحيم.
مثلاً، يرتفع مدخل الهرم الأكبر 17 متراً فوق سطح الأرض، حيث يؤدي لممر ينزل لغرفة دفن الملك. وبالرغم من تغيير تصميم الأهرامات مع الوقت، لكن مدخلها ظل يقام جهة الشمال ليؤدي لممر ينزل لأسفل، أو أحياناً يؤدي لغرفة دفن الملك التي كانت تشيد في نقطة مركزية بقاعدة الهرم، وعادة ما يجاوزها غرف لتخزين مقتنياته وثرواته واحتياجاته المادية لحياته الآخرة، ما كان يعرّضها للنهب والسرقة.
بناء هندسي معقد يتجاوز حدود الهرم الملكي
كانت المعابد تُبنى حول الهرم، وأحياناً تلحقها أهرامات صغيرة داخل معبد للكهنة وكبار رجال الدولة، وكان الهرم متصلاً أيضاً بميناء على شاطئ النيل يتصل به عبر عدة قنوات.
كان يُطلق على هذا الملحق "معبد الوادي"، والذي كان موصولاً بالهرم بطريق طويل مرتفع ومسقوف للسير من خلاله.
هذا الطريق كان يمتد من الوادي عبر الصحراء ليؤدي إلى معبد جنائزي يطلق عليه "معبد الهرم"، والذي بدوره كان يتصل بمركز الواجهة الشرقية للهرم الذي كان يضم مجموعة من الأهرامات الأخرى، من بينها أهرامات توابع وأهرامات الملكات.
وكانت هذه الأهرامات التوابع أماكن صغيرة للدفن لا يُعرف سرها وخباياها حتى الآن، ولكن وجد المستكشفون أنها كانت تضم تماثيل لروح الملك، كما كانت أهرامات الملكات صغيرة وبسيطة وحولها معابد صغيرة.
وبخلاف أهرامات خوفو وخفرع ومنقرع الأشهر، يزيد عدد الأهرامات الأخرى على 100 هرم منوّع ومختلف، مثل هرم "سخم خت"، ويسمى الهرم المدفون، الذي يقع في منطقة سقارة.
كذلك بالنسبة لأهرامات سنفرو، مثل هرم سنفرو المائل، وهرم سنفرو في الشمال الذي يُسمى بالهرم الأحمر. هناك أيضاً أهرامات أخرى متنوعة ومتناثرة عبر مدن ومحافظات مصر، مثل سقارة وأبو صير ودهشور وغيرها، ومنها:
- هرم أوسركاف.
- هرم ساحورع.
- هرم نفر إر كارع كاكاي.
- هرم شبسس كارع.
- هرم ني أوسر رع في أبو صير.
- هرم منكاو حور كايو مقطوع الرأس.
- هرم بيبي الأول.
تطوير مفهوم دفن الملك في قبر هرمي
يطلق على هرم الملك خوفو الهرم الأكبر، وهو يقع في قلب الصحراء بغرب الجيزة. وبجواره هرما الملك خفرع، ابن خوفو، والملك منقرع حفيد خوفو.
كانت طريقة الدفن قد بدأت فعلياً لدى قدماء المصريين من المقابر المتواضعة إلى الأهرامات العملاقة ما بين عام 2920 و2770 قبل الميلاد.
وحتى عام 2649 ق.م، كان الملوك يُدفنون في بلدة أبيدوس في قبور تتكون من جدران من الطوب فوقها مصطبة من الرمل، لكن ما بين سنة 2649 و2575 قبل الميلاد، كان الملوك يُدفنون تحت مصطبة من الطوب اللبن فقط.
لكن الملك زوسر (الذي حكم من سنة 2630 حتى 2611 ق.م) بنى هرمه المدرج بسقارة ليغير تلك المعادلة، وكان هرمه عبارة عن مصطبة مربعة مساحتها كبيرة، وتعلوها مصاطب متدرجة في شكل هرمي مدبب يتكون من 6 مصاطب إجمالاً.
صمم هذا الهرم الفريد الوزير المعماري أمنحتب، ومن بعده أخذ الملوك يبنون مصاطبهم من الحجارة بأشكال وأحجام مبتكرة، وكان أول من بنى هرماً حقيقياً بالشكل الذي نعرفه هو الملك سنفرو في بلدة دهشور.
في الفترة من 2465 إلى 2323 قبل الميلاد، تراجع الاهتمام ببناء الأهرامات الملكية في مصر الفرعونية، وفي عهد المملكة الحديثة (1550 ق.م. – 1070 ق.م.) لم يعد الملوك يُدفنون في الأهرامات، ونقلوا موقع مقابر الدفن في وادي الملوك؛ حيث عاصمتهم الجديدة طيبة، أو الأقصر اليوم.
وعلى مدار 1500 سنة قبل هذا التاريخ، كان قد تم تشييد 118 من الأهرامات على يد نحو 30.000 عامل مصري.
هرم زوسر رمز لثورة الهندسة المعمارية الحجرية
يُعتبر هرم الملك زوسر المدرج أحد أشهر المعالم الأثرية فى مصر، وهو يشكل نقطة تحول تاريخية مهمة في الآثار الجنائزية المصرية القديمة، كما يعتبر ثورة في الهندسة المعمارية الحجرية للدفن الملكي.
وبالإضافة لضخامة حجمه، فهو أول هرم بناه المصريون القدماء، وأقدم بناء حجري معروف حتى اليوم. حيث يرجع عمر بناء الهرم المدرج إلى بداية الأسرة الثالثة، وذلك في عهد الملك نترخت (2667 – 2648 ق.م.) والمعروف الآن باسم زوسر.
وقد اكتُشف مجمع هرم سقارة لأول مرة عام 1821، حينما قام القنصل العام الألماني "هاينريش فون مينوتولي"، والمهندس الإيطالي "غيرو لانو سيجاتو" بفحصه، واكتشفا مدخله.
حيث عثرا في ممراته الداخلية على بقايا مومياء عبارة عن جمجمة وقدمين مغطيين بالذهب. واعتقد "فون مينوتولي" أنها تنتمي إلى مومياء زوسر.
ثم بتفويض من القيصر الألماني، وموافقة من محمد علي باشا، حاكم مصر في ذلك الوقت، تم أخذ تلك القطع الأثرية الفريدة مع مجموعة آثار أخرى إلى ألمانيا.
لكن لسوء الحظ غرقت السفينة "جوتفريد" التي تُقل الآثار المصرية بسبب إعصار شديد بالقرب من ميناء هامبورغ في ألمانيا، وضاع تقريباً كل ما كان على متنها.
وتبين فيما بعد أن ما وجده "فون مينوتولي" في ممرات الهرم المدرج لم يكن إلا لمومياء أخرى وُضعت في المقبرة. جدير بالإشارة أنه في مارس عام 2020 أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، عن افتتاح أول هرم بُني في مصر القديمة، وهو هرم زوسر المدرج، الذي يُعد أقدم بناء حجري كبير في العالم، بمنطقة آثار سقارة، للزيارة بعد خضوعه لعمليات ترميم استمرت 14 عاماً.
ويعود تاريخ بناء هرم زوسر المدرج إلى القرن الـ27 قبل الميلاد، على يد المعماري أمنحتب، وهو أول مهندس معماري في التاريخ، وأحد أشهر المهندسين في مصر القديمة.
كيف تم بناء الأهرامات؟ ومن الذي قام بتشييدها؟
ظهرت نظريات عديدة حول طريقة بناء الأهرامات، ووصل الأمر ببعضها للاعتقاد أن كائنات فضائية هي التي قامت ببنائها لتعقيد العملية، ولا تزال تقنيات بناء الأهرامات تُعد مثاراً للجدل بين الباحثين حتى اليوم.
في تقرير نشره موقع "أوبن كلتشر" (Open Culture) الأمريكي، يقول الكاتب جوش جونز إن أدلة أثرية وعلمية جديدة تدحض كل تلك النظريات، وتؤكد أن من شيّد الأهرامات نخبة من عمال البناء الذين تمتعوا بامتيازات عالية من طعام وسكن خلال فترة العمل.
وكتب جوناثان شو في مجلة هارفارد (Harvard Magazine) أن العديد من علماء المصريات -ومنهم عالم الآثار مارك لينر، الذي نقّب عن آثار مدينة العمال في الجيزة- يؤيدون الفرضية القائلة إن الأهرامات قد بُنيت بواسطة قوة عاملة تناوبت على أداء المهام في شكل وحدات وفرق. وقد عُثر على كتابات جدارية في موقع التنقيب تدل على أسماء تلك الفرق، مثل "أصدقاء خوفو" و"سكارى منقرع".
كما كشفت عمليات التنقيب، التي أشرف عليها عالم الآثار المصري زاهي حواس عام 2010، عن مقابر للعمال عند سفح الأهرامات، ترجع إلى الأسرة الرابعة (نحو 2494-2613 قبل الميلاد)، ما يعني أن موتاهم دُفنوا في مواقع مميزة، حيث كان بناء الأهرامات عملاً محفوفاً بالمخاطر، لذلك فقد تم تكريم العمال من خلال دفنهم بجانبها.