في 10 يونيو/حزيران عام 1923، وُلد محمد العربي بن مهيدي بدوار الكواهي ببلدية عين مليلة بولاية أم البواقي، كان أبوه يدعى عبد الرحمن بن مسعود بن مهيدي، أمّا أمه فكانت عائشة قاضي بنت حمو، واختار له والداه إسم العربي؛ تيمناً باسم جدّه محمد العربي.
ومثل سائر العائلات الجزائرية المحافظة، كان التعليم القرآني المرحلة الأولى لتعليم محمد العربي بن المهيدي، الذي دخل وهو في سن الخامسة إلى كتّاب تحفيظ القرآن في قريته بدوار الكواهي، ثم انتسب إلى المدرسة الابتدائية، وحصل على شهادتها بدرجة الامتياز.
بحسب كتاب "سيرة وحياة الشهيد محمد العربي بن مهيدي"، أجبرته الأوضاع الاقتصادية الصعبة لعائلته، على الولوج إلى عالم الشغل مبكراً، فقد كان والده عاملاً بسيطاً في مصنعٍ للتبغ أمّا أمه فكانت ربة بيت، مما اضطر العربي بن مهيدي إلى الانتقال إلى بسكرة للعمل في تجارة التمور.
متعدد المواهب الذي جمع بين المسرح والسينما وكرة القدم
في مدينة بسكرة، بدأت مرحلةٌ جديدةٌ من حياة محمد العربي بن مهيدي، فهناك التحق بالمدرسة الثانوية الفرنسية، وبالموازاة مع ذلك انتسب إلى مدرسة جمعية العلماء المسلمين، وكان من بين شيوخه في جمعية العلماء المسلمين الشيخ الجزائري محمد العابد السماتي، الذي رسّخ داخل شخصية محمد العربي مفهوم الحركة الوطنية، وزرع فيه حبّ الوطن والدين.
خلال فترة شبابه، وعلاوة على تحديات الحياة الاقتصادية ومسيرته العلمية، كان لدى العربي بن مهيدي العديد من المواهب، التي استغلها ليبصم على نشاط ثقافي كبير خلال فترة مراهقته، فقد كان مسرحياً موهوباً، وصلت بعض أعماله إلى العالمية.
ففي سنة 1941، أسّس محمد العربي بن مهيدي فرقةً مسرحيةً تابعةً للكشافة الإسلامية، ومن بين العروض التي قدمها كانت مسرحية "في سبيل التاج"، التي ترجمها الأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي، وهي المسرحية التي فرضت بسببها السلطات الفرنسية على العربي بن مهيدي الإقامة الجبرية بمدينة بسكرة.
لم تقتصر مواهب بن مهيدي على المسرح، فقد كان ناقداً سينمائياً فذّاً، متابعاً لكلّ جديدٍ تنتجه السينما العالمية، مثل الفيلم الذي يدور محتواه حول الثائر المكسيكي "زاباتا"، الذي أعجب به كثيراً حتى صار يلقبه رفاقه بـ"الحكيم زاباتا".
علاوة على ذلك، كان محمد العربي بن مهيدي رياضياً بارعاً، فقد كان أحد نجوم فريق الاتحاد الرياضي الإسلامي لبسكرة الذي أنشأته الحركة الوطنية، كان بن مهيدي لاعباً أساسياً في الفريق ومدافعاً صلباً.
الرجل الذي آمن بالكفاح المسلح لتحرير الجزائر منذ شبابه
كانت أحلام محمد العربي بن مهيدي أكبر من أن يكون مسرحياً أو نجماً سينمائياً أو لاعب كرة قدم مشهور، فقد كان مرتبطاً جداً بقضية وطنه الجزائر وتحريره من الاحتلال الفرنسي.
في سن الـ19، اختار بن مهيدي طريق النضال السياسي من أجل حرية الجزائر، فانضم سنة 1942 إلى صفوف حزب الشعب، تحت قيادة مصالي الحاج، من أجل التحضير إلى تفجير الثورة، وذلك بعد أن جنده محمد عصامي، المسؤول عن الحزب في بسكرة. في تلك الفترة زاد اهتمامه بالشؤون السياسية والوطنية.
كانت مجازر الـ8 مايو/أيار 1945 البشعة التي ارتكبتها السلطات الفرنسية في حق الجزائريين بمثابة نقطة الانعطاف في مسار القضية الجزائرية، وفي مسار العديد من المناضلين الذين كانوا ينتهجون طريق السياسة من أجل تحقيق الإستقلال.
كان محمد العربي بن مهيدي من المناضلين الجزائريين الذين تأثروا بالمجزرة، وتغيّر تفكيرهم في طريقة مجابهة هذا الاحتلال المجرم، إلى العمل المسلح.
تماشياً مع الأفكار الجديدة التي بات يحملها، التحق محمد العربي بن مهيدي بصفوف المنظمة الخاصة، وهو الجناح المسلح السري لحزب الشعب الجزائري الذي كان يقوم بعمليات مسلّحة ضد الجيش الفرنسي، وفي عام 1949 تدرّج بن مهيدي في المناصب حتى صار مسؤول الجناح العسكري بسطيف وعمره لم يتجاوز حينها 26 عاماً، ونائباً لرئيس التنظيم السري على مستوى الشرق الجزائري، الذي كان يقوده يومئذ أحد رموز الثورة الجزائرية لاحقاً وهو محمد بوضياف، وخلال تلك الفترة بُنيت علاقة وطيدة بين الرجلين عجلت بقرار تفجير الثورة.
ألقوا بالثورة إلى الشارع لحتضنها الشعب
خلال النصف الأوّل من الخمسينيات، تعرّضت الحركة الوطنية الجزائرية إلى العديد من الضربات المتتالية، من اكتشاف المنظمة الخاصة من قبل السلطات الفرنسية إلى أزمة الانقسام التي طالت حزب حركة انتصار الحريات، الذي وُلد على أنقاض حزب الشعب بعد حلّه.
كان محمد العربي بن مهيدي ومحمد بوضياف من المناضلين الذين لم يسرهم حال انقسام المناضلين الجزائريين واقتتالهم في بعض الأحيان، فقادوا مبادرة سرية كان ظاهرها حلّ أزمة الانقسام، وفي باطنها كانت تخطط لتفجير الثورة الجزائرية.
في البداية تأسست اللجنة الثورية للوحدة والعمل المتكونة من 5 شبان، هم: مصطفى بن بولعيد، محمد العربي بن مهيدي، ديدوش مراد، رابح بيطاط، محمد بوضياف، في شهر مارس/آذار عام 1954.
كان العربي من بين عناصر اللجنة البارزين، ومع الفشل في مهمة جمع شتات مناضلي الحركة، أخذ العربي بن مهيدي ورفاقه على عاتقهم المضي قدماً في قرار تفجير الثورة التحريرية من خلال عقد اجتماع "مجموعة الـ22" التي أعطت العربي بن مهيدي ورفاقه الـ6 مسؤولية الإعداد والتحضير للثورة.
لم تتأخر مجموعة الستة، وهم: ديدوش مراد، رابح بيطاط، والعربي بن مهيدي، وكريم بلقاسم، محمد بوضياف، مصطفى بن بولعيد، في الاجتماع للإعلان عن قرارهم المصيري في تاريخ الجزائر، فاجتمعوا في بيت سري بحي "لا بوانت بيسكاد" بالعاصمة الجزائر، في 23 أكتوبر (تشرين الأوّل) 1954، وخلال ذلك الاجتماع أعلن القادة الستة عن موعد تفجير الثورة الجزائرية يوم الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954.
مهندس مؤتمر الصومام
في ورقة طريق الثورة الجزائرية، اتفق القادة الستة، على تنظيم مؤتمر لتقييم الثورة ومسارها وذلك بعد سنة من اندلاعها، لكن الظروف التي صارعتها الثورة الجزائرية في سنتها الأولى واستشهاد العديد من قادتها من بينهم بعض القادة الستة، أجّل انعقاد هذا المؤتمر سنة أخرى، كان ذلك المؤتمر المصيري هو مؤتمر الصومام.
عمل محمد العربي بن مهيدي شخصياً على إعداد وتنفيذ مؤتمر الصومام التاريخي في أغسطس/آب عام 1956، والذي جمع قادة الثورة الجزائرية، وخُصص لتقييم المرحلة الأولى من النضال وتغيير استراتيجيات الدفاع عبر تدويل القضية الجزائرية في المحافل الدولية واستقطاب الدعم العالمي.
بحسب سليمان باور في كتابه "حياة البطل الشهيد محمد العربي بن مهيدي"، كُلف بن مهيدي في ذلك المؤتمر قيادة العمليات الفدائية بجيش التحرير الجزائري، فبدأ بتنظيم خلايا عدة، مُنفذاً العديد من العمليات التي اربكت المحتل الفرنسي وجعلت إسمه المطلوب الأوّل.
وإلى جانب النضال المسلح، نظم بن مهيدي عصياناً مدنياً وإضراباً شاملاً لـ8 أيام في يناير/كانون الثاني عام 1957، في سائر أنحاء الجزائر.
حكيم الثورة الجزائرية الذي سُلخ جلده ولم يخنها
كان ذلك الإضراب الذي أفقد الاحتلال الفرنسي سلطته على العاصمة الجزائر، بمثابة القطرة التي أفاضت غضب الفرنسيين على القائد الأوّل للثورة الجزائرية، فعملت كلّ وسعها لإسقاط العقل المدبّر للثورة في شباكها.
ولأنّ الخيانة دائماً ما تكون العدو الأوّل للثورات، سقط محمد العربي بن مهيدي في أسر الفرنسيين، وذلك بعد أن اعتقلته قوات الاحتلال الفرنسي في 23 فبراير/شباط من عام 1957، بعد أن وشي به أحد الخونة.
تعرض العربي بن مهيدي لشتى أنواع التعذيب طيلة فترة اعتقاله التي بلغت أسبوعين حتى يبوح بأسرار الثورة الجزائرية، لكنه في الواقع "عذّب الاستعمار" بصمته ورفضه خيانة الثورة التي فجّرها، واكتفى بجملة واحدة رداً على التعذيب الكبير الذي تعرض له، فقال العربي بن مهيدي لجلاديه: "أمرت فكري بألا أقول لكم شيئاً".
في ليلة الـ4 مارس/آذار 1957، اهتزت الجزائر على خبر إعدام قائد الثورة الجزائرية محمد العربي بن مهيدي في الاعتقال، ورغم إنكار السلطات الفرنسية مسؤولية إعدامها للأسير بن مهيدي وادعائها بأنّ من كان يلقبه رفاقه بالحكيم زاباتا انتحر في السجن، فإن فرنسا انتظرت نحو نصف قرن لتمتلك الشجاعة للاعتراف بإعدامها لبن مهيدي.
ففي سنة 2001، اعترف الجنرال الفرنسي بول أوساريس لصحيفة "لوموند" الفرنسية، أنه أعدم العربي بن مهيدي شنقاً بعد أن عجزت كلّ محاولات الاستجواب التي قام بها الفرنسيون.
قبل استشهاده ترك بن مهيدي وصيةً للجزائريين مفادها "إذا ما استشهدنا دافعوا عن أرواحنا، نحن خُلقنا من أجل أن نموت، لكي تستخلفنا أجيال لاستكمال المسيرة".