في عام 2013، توافد الناس على دور السينما لمشاهدة فيلم "12 سنة من العبودية" 12 Years a Slave، وهو الفيلم الذي حاز جائزة أوسكار لأفضل فيلم سنة 2014، والذي يحكي قصة مؤثرة عن محنة رجلٍ حرٍّ خُطف من الشمال الأمريكي وحُوّل إلى عبد في الجنوب قبيل حرب الانفصال.
لكن إذا كانت قصة الفيلم قُدِّمت بحبكة درامية وإنتاج سينمائي من هوليوود، فإن بطلها سولمون نورثوب، وفقاً لموقع All That's Interesting الأمريكي، كان إنساناً حقيقياً عاش وخبرَ فصول هذه المأساة.
فكما صوّر الفيلم، كان نورثوب رجلاً أسود يعيش حراً، لكنه اختُطف ونُقل إلى لويزيانا، وبيع هناك كالعبيد. ثم أمضى 12 عاماً ذاق فيها بؤس العبودية، وهي المحنة التي انتشرت وقائعها لأوّل مرة في الصفحة الأولى لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، في عددها ليوم 20 يناير/كانون الثاني 1853، قبل أن يرويها بطلها سولمون نورثوب بعد ذلك في كتابه المنشور عام 1853 تحت عنوان "اثنتا عشرة سنة من العبودية: قصة سولمون نورثوب.. مواطن من نيويورك.. اختُطف في واشنطن عام 1841.. ونجا في 1853" (Twelve Years a Slave: Narrative of Solomon Northup, a Citizen of New-York, Kidnapped in Washington City in 1841, and Rescued in 1853).
تأثر القراء في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية حين قرأوا مذكرات نورثوب التي سرد فيها حكايته المذهلة، رجلٌ أسود حرٌ تمّ استدراجه من ساراتوجا سبرينغز في شمال ولاية ساراتوجا إلى منطقة العبيد في واشنطن العاصمة من قبل اثنين من الرجال البيض الذين وعدوه بالعمل كعامل عازف في سيرك متنقل.
هناك، قام الرجلان بتخدير نورثوب، الوالد لثلاثة أطفال، والذي استيقظ ليجد نفسه مقيداً بالسلاسل داخل زنزانة مظلمة تحت الأرض.
من هناك، تم نقله إلى لويزيانا، حيث عمل لمدة 12 عاماً عبداً في مزارع القطن والسكر قبل إثبات وضعه كرجل حر، مما أدى إلى تحرره، بحسب ما نقله موقع history التاريخي.
وما لبثت مبيعات الكتاب أن تجاوزت مؤلفات الكتاب البيض، من أمثال هنري ديفيد ثورو، ووالت ويتمان، ورالف والدو مرسون، إذ باع نورثوب 30000 نسخة من كتابه في 3 سنوات. وقد وصف فريدريك دوغلاس، الكاتب الأمريكي الأسود والسياسي المدافع عن حقوق السود، سيرةَ نورثوب بأنها "حقيقة أغرب من الخيال".
والواقع أن القصة الحقيقية لسولمون نورثوب تختلف بعض الشيء عن تلك التي يرويها فيلم "12 سنة من العبودية".
من الحرية إلى العبودية
وُلد سولمون نورثوب الذي يجسد شخصيته في الفيلم الممثل شيواتال إيجيوفور في عام 1807 في رود آيلاند، وتم اصطحابه مع عائلة نورثوب عند انتقالها إلى Hoosick، بنيويورك.
كان والده مينتوس محرراً بعد أن كان عبداً في حياته المبكرة في خدمة عائلة نورثوب، إذ حرره سيده النقيب هنري نورثوب مينتوس في وصيته؛ واعتمد مينتوس اللقب نورثوب على أنه ملكه.
تزوج مينتوس نورثوب من امرأة حرة ملوّنة، وانتقل معها إلى بلدة مينيرفا في مقاطعة إسيكس، حينها وُلِد لهما ابناهما، سولمون ويوسف، أحراراً لأن والدتهما كانت امرأة حرة.
نشأ سولمون حراً ينفق وقت فراغه في مطالعة الكتب أو العزف على الكمان، الذي كان "الشغف به مستحوذاً عليه".
في سنة 1828، تزوج سولمون نورثوب من آن هامبتون، وكانت زوجته امرأة مختلطة العِرق.
بين عامي 1830 و1834، عاش الزوجان في فورت إدوارد وكينغسبري، وهما مجتمعات صغيرة في مقاطعة واشنطن، نيويورك. أنجبا 3 أطفال: إليزابيث ومارغريت وألونزو. كانوا يمتلكون مزرعة في الخليل ويكملون دخلهم بوظائف مختلفة. كان نورثوب، وهو مزارع وعازف كمان محترف، مالكًا للأراضي في نيويورك.
ومع أن نورثوب عاش بعيداً عن عبودية الجنوب، فقد توافق أن لاقى بين الحين والآخر سوداً مستعبدين مروا بمحلِّ عمله في "فندق الولايات المتحدة"، وكان بعضهم يطلب العون منه. وكتب نورثوب بعد ذلك أنه "أحس في أكثرهم نزوعاً كامناً إلى الحرية"، وكان "بعضهم يكشف لي عن رغبة متوقدة في الهروب، ويأخذ بمشورتي في أنجع وسيلة إلى ذلك".
لكن نورثوب كان يحس بأن العبودية تنتمي إلى عالم آخر غير الذي يعيش فيه، فيذكر في مذكراته: "فبعد أن تنفست طوال حياتي هواء الحرية في الشمال… استحوذت عليَّ المشاعر والعواطف ذاتها التي كانت تتردد في خواطر الرجل الأبيض"، و"لم أكن أقل ذكاء من كثير ممن هم أقرب إلى بياض البشرة مني".
إلا أن نورثوب ما لبث أن انتُزع قسراً من سعة الحرية وهوائها في الشمال، لينُقل إلى ضيق العبودية وخِناقها في الجنوب.
اختطاف سولمون نورثوب
في عام 1841، انقلبت حياة سولمون نورثوب رأساً على عقب، فبينما كان يبحث عن عمل في مدينة "ساراتوغا سبرينغس" بولاية نيويورك حتى تقاطعت سبل سولمون نورثوب برجلين أبيضين، زعما أن اسميهما "هاميلتون" و"براون".
عرض الرجلان على نورثوب العمل عازفاً على الكمان في مدينة نيويورك، ثم أصروا على اصطحابه معهم للعمل بوظيفة في عروض للسيرك تُقام في واشنطن العاصمة، حيث كانت العبودية مقننة.
ويروي نورثوب في مذكراته أنهم "تعهدوا لي بالشهرة والأجر الوفير إذا رافقتهم. وبالغوا كثيراً في الفوائد التي ستعود عليَّ، وأفاضوا عليَّ بالثناء والمديح، فما كان مني إلا أن قبلت العرض في النهاية"، لكن ما حدث بعدها كان فظيعاً.
في الواقع، قام الرجلان باستدراج نورثوب، ومن ثمّ قاما بتخديره، فلم يستيقظ إلا وقد وجد نفسه في "ظلام حالك، مقيداً بالسلاسل".
يقول نورثوب في مذكراته: "ثم خطر لي أني قد اختُطفت، ومع ذلك فقد بدت الفكرة بعيدة ومريبة أول الأمر. فأخذت أقول لنفسي إن هذا أعجب من أن يصدق، لا بد أن في الأمر التباساً أو أنه نحس أصابني".
لكن المصيبة ما فتئت أن كشفت عن نفسها حين علم أن سجنه لم يكن من قبيل الخطأ. ولما ألحَّ على آسره الأبيض في طلب إطلاق سراحه، ضربه الرجلان ضرباً مبرحاً، فيذكر نورثوب أنه توالت على جسده العاري الضربات واحدةً تلو الأخرى، ولم يتوقف الرجلان عن الضرب إلا حين عجزت ذراعهما. يضيف نورثوب بأنّ الرجلان كانا يسألنه إذا كان قد قال عن نفسه أنه رجلٌ حر، وعندما يصرّ نورثوب يضاعف الرجلان ضربه.
سرعان ما وُضع نورثوب على متن سفينة متوجهة إلى لويزيانا. وكما جاء في الفيلم، فقد دبَّر هو وغيره من الرجال السود خطةً للاستيلاء على السفينة، والهروب. لكن الحادثة تختلف بعد ذلك بين ما رواه نورثوب في كتابه وما يأتي به الفيلم من أحداث.
ففي الفيلم، تُحبط الخطة بعد مقتل أحد الرجال وهو يدافع عن امرأة حاول رجل أبيض اغتصابها. أما في الواقع، فتنقل مجلة Slate عن مذكرات نورثوب أن خطتهم تبدَّدت بعد وفاة أحد الرجال بإصابته بالجدري.
ولما انقطعت عن نورثوب كل حيلةٍ للهرب، استقر على انتظار ما تحمله له المقادير في الجنوب.
12 سنة في رقِّ العبودية
بعد الرحلة الطويلة على متن السفينة، وجد سولمون نورثوب نفسه في نيو أورلينز، حيث تم بيعه في سوق العبيد تحت اسم بلات هاميلتون. أمضى السنوات الـ12 التالية في العبودية في منطقة مزارع بايو بوف، بوادي النهر الأحمر بوسط لويزيانا.
كان نورثوب مملوكاً لأوّل مرة من قبل ويليام برينس فورد، الذي امتدحه لطفه. ومع ذلك، أُجبر فورد بسبب الضرورة المالية على بيعه إلى جون إم تيبوت الوحشي في عام 1842.
كان نورثوب عبد تيبوت الوحيد. عندما حاول تيبوت جلده، قاوم نورثوب وانتصر في القتال الذي أعقب ذلك. بعدها أراد تيبوت إعدامه، لكن نوربوث هرب إلى حماية فورد، الذي طالب بعد ذلك تيبوت ببيعه أو تأجيره.
في أبريل/نيسان 1843، تم بيع نورثوب إلى إدوين إيبس، الذي ظل تحت ملكيته لـ10 سنوات.
استخدم إيبس نورثوب كعبد حرفي وكعامل ميداني، وقام أحياناً بتأجيره لمزارعي السكر.
طوال هذا الوقت، غالباً ما كان نورثوب مسؤولاً عن العبيد الآخرين لمالكه إيبس، الذي كان فخوراً بخبرته. مع ذلك، حاول نورثوب الهروب عدة مرات خلال تلك الفترة، لكنه لم ينجح.
كيف نجا سولمون نورثوب من أسر العبودية؟
بعد 12 سنة من العبودية، عاد نورثوب رجلاً حراً في عام 1853، وذلك عندما زار نجار من كندا من الذين ألغوا عقوبة الإعدام يدعى صمويل باس مزرعة إبس في يونيو 1852، حيث تمكن نورثوب من ترتيب تسليم رسائل إلى الأصدقاء في نيويورك لتنبيههم إلى وضعه وبدء عملية إنقاذه.
تم إرسال رسالة واحدة إلى أن نورثوب، التي طلبت المساعدة من هنري نورثوب، صديق سولمون وابن أخت الشخص الذي عتق مينتوس.
ذكر موقع BlackPast الإلكتروني أن هنري نورثوب، أحد أقارب المالك السابق لوالد نورثوب، وحاكم نيويورك، وسيناتور في مجلس الشيوخ عن ولاية لويزيانا، شاركوا جميعاً في المساعي التي بذلت للوصول إلى مكان نورثوب، وتحريره من العبودية في ذلك العام.
بعد ذلك، استقام سير الأمور وتحققت لنورثوب العودة إلى نيويورك. وفي معرض الحديث عن ذلك قال: "غمرت السعادة قلبي لمَّا نظرت فوجدت حولي ما ألفته من مشاهد قديمة، وآنست نفسي وسط أصدقاء الأيام الخوالي"، وإن كتبَ أيضاً أن لقاءه بابنته مارغريت أصابه بالحزن الشديد، لأنها لم تعرفه بعد 12 سنة من الفراق.
لكن قصة سولمون نورثوب لم تنتهِ عند هذا الحد، بل إن بعض المؤرخين يرون أن فصولها الأخيرة لا تزال لغزاً غامضاً حتى اليوم.
ماذا حدث لسولمون نورثوب؟
بعد نهاية القصة المأساوية لسولمون نوربوث بتحريره من جديد، بدأت قصة لا تقل مأساوية عما عاشه نورثوب، فعلى الرغم من إلقاء القبض على تاجر الرقيق في واشنطن العاصمة، جيمس إتش بيرش، ومحاكمته، فإنه لم يعاقب على فعلته، إذ تمت تبرئته بسبب أنّ قانون مقاطعة كولومبيا منع نورثوب كرجل أسود من الشهادة ضد البيض.
في وقت لاحق، في ولاية نيويورك، تم تحديد موقع الخاطفين الشماليين واتهامهم، لكن القضية كانت مقيدة في المحكمة لمدة عامين بسبب تحديات الاختصاص القضائي وتم إسقاطها أخيراً عندما تبين أن واشنطن العاصمة تتمتع بالولاية القضائية. أمّا حكومة العاصمة، فلم تتابع القضية من الأساس، وبالتالي الذين اختطفوا و استعبدوا نورثوب لم يتلقوا أي عقوبة.
في سنته الأولى من الحرية، كتب نورثوب ونشر مذكراته بعنوان "اثنا عشر عاماً من العبودية" سنة 1853، كما قام بإلقاء محاضرات نيابة عن حركة إلغاء الرق، وألقى أكثر من عشرين خطاباً في جميع أنحاء الشمال الشرقي حول تجاربه مع العبودية، وذلك في إطار نشاطه من أجل بناء الزخم ضد العبودية.
مع ذلك اختفى إلى حد كبير من السجل التاريخي بعد عام 1857، توفي سليمان نورثوب عام 1863.
تم تعديل مذكراته وإنتاجها من قبل جوردون باركس في فيلم سينمائي أُنتج عام 1984 تحت عنوان Solomon Northup's Odyssey، ثم أُعيد إنتاج فيلم جديدٍ من إنتاج هوليوود سنة 2013 بعنوان 12 Years a Slave وهو الفيلم الذي فاز بـ3 جوائز أوسكار، بما في ذلك أفضل فيلم في حفل توزيع جوائز الأوسكار السادس والثمانين.