شهدت الجزائر خلال فترة الحكم العثماني بروز شخصيات عسكرية كثيرة، تركت أثراً كبيراً في البحر المتوسط، من خلال مشاركتها في الغزوات البحرية التي كان يشنها الأسطول العثماني الجزائري على السفن الأوروبية في المتوسط، ونجحت هذه الشخصيات في اكتساب شهرة واسعة في زمانها، سواء بسبب إنجازاتها الحربية أو حياتها المثيرة.
ولعلّ أبرز مثال على ذلك هو الرايس قورصو، المشهور باسم حسن قورصو، الذي عاش حياةً مشوقة منذ طفولته التي عاشها أسيراً لدى البحارة العثمانيين، وصولاً إلى شبابه الذي قضاه قائداً عسكرياً للأسطول البحري الجزائري.
من هو الرايس قورصو؟
يعدّ الرايس قورصو من أهم الشخصيات الجزائرية خلال فترة الحكم العثماني، فقد تدرّجت هذه الشخصية وكبرت داخل إحدى أهم المؤسسات العسكرية العثمانية؛ مؤسسة البحرية، انطلاقاً من بحار إلى قائد، ثمّ قائد عام للأسطول، وأخيراً إلى رتبة رايس، وهي أعلى الرتب العسكرية في البحرية العثمانية الجزائرية.
ولد حسن قورصو في تافيرا، بضواحي جزيرة كورسيكا سنة 1518م، وهي نفس السنة التي دخلت فيها الجزائر رسمياً تحت العباءة العثمانية، وخلال تلك الفترة كانت جزيرة كورسيكا تتعرض إلى غارات مستمرة من قبل البحارة المسلمين، الذين كانوا يستهدفون السفن الأوروبية وتجارة العبيد.
تشير المراجع الأوروبية إلى أنّ حسن قورصو، الذي صار رايساً للبحرية العثمانية الجزائرية، بعد وفاة صالح رايس سنة 1556، كان اسمه PIETRO PAOLO TAVERA، عندما اختطفه البحارة العثمانيون بقيادة صالح رايس من جزيرة كورسيكا سنة 1523، وقدموا به إلى الجزائر قبل أن ينقلوه إلى الباب العالي بإسطنبول.
في إسطنبول أخذ باولو بيترو تيفارا اسم حسن قورصو، وبدأ تعلّم اللغة العربية وتعاليم الإسلام قبل أن يدخل إلى مؤسسة الانكشارية.
يشير المؤرخون إلى أنّ اسم قورصو الذي اتخذه حسن هو نسبة إلى جزيرة كورسيكا، التي ولد بها.
حسن قورصو في الجزائر
لم يلبث حسن قورصو كثيراً في الباب العالي، إذ أثبت كفاءته العسكرية سريعاً، ليُرسل إلى الجزائر في مهمة عسكرية، وهناك بدأ فصلٌ جديدٌ في حياة حسن قورصو.
كانت مسيرته العسكرية نيزكية، إذ جعلته مآثره العسكرية يرقى إلى رتبة آغا (جنرال) سنة، وهو في سنّ الـ31، وسرعان ما تمّ تعيينه قائداً للجيش الجزائري سنة 1549، وذلك خلال فترة حكم صالح رايس، الذي كان مقرباً منه وشارك معه في العديد من المعارك والغزوات.
في سبتمبر/أيلول 1550، قاد حسن قورصو الجيش العثماني في غزوته على مدينة تلمسان، التي كان قد استولى عليها السعديون، لكن تلك الحملة فشلت في طرد السعديين من تلمسان.
كان صالح رايس حريصاً على إخضاع القبائل الجنوبية للسلطة العثمانية، لذا كلّف حسن قورصو بقيادة حملة عسكرية على مدينتَي ورقلة وتقرت، حيث خاض الرايس قورصو معارك طويلة مع القبائل العربية بالصحراء، ونجح أخيراً في إخضاع السلطة العثمانية على مناطق واسعة من الجنوب، الذي كان حينها يتعرض إلى تحرشات عسكرية من السعديين.
أمام النجاح الذي حققه الرايس قورصو وصالح رايس بإخضاع القبائل الجنوبية للسلطة العثمانية، توجه صالح رئيس برفقة الرايس قورصو إلى وهران، من أجل طرد الإسبان منها في يونيو/حزيران 1556.
كان جيش صالح رايس وخليفته رايس قورصو مكوناً من أسطولٍ بحري قوامه 30 سفينة حربية، إضافة إلى جيش بري قوامه 10 آلاف جندي، استطاع الجيش العثماني في بداية الأمر أن يحقق انتصارات على الإسبان، الذين احتموا داخل أسوار المدينة، وتمكنوا من السيطرة على حصن سانتوس.
نهاية مأساوية للرايس قورصو
لكن الوفاة المفاجأة لصالح رايس بسبب الطاعون، قلبت أوضاع الحملة رأساً على عقب، وجعلت الجيش العثماني يتخبط في بادئ الأمر، قبل أن يستفيق قادة الجيش العثماني على تسمية خليفة صالح رايس، حسن قورصو رايساً وحاكماً للجزائر، خلفاً لصالح رايس، وذلك دون انتظار موافقة السلطان العثماني.
كان الباب العالي في إسطنبول لا يعلم بخبر وفاة صالح رايس، لذلك أرسل السلطان سليمان القانوني وفداً إلى الجزائر، لكن ذلك الوفد الذي وجد الرايس قورصو حاكماً للجزائر عاد وأخبر السلطان بوفاة صالح رايس، فأصدر سليمان القانوني فرماناً بتعيين محمد تكيرلي حاكماً على الجزائر.
رفض الرايس قورصو قرار السلطان العثماني بتعيين تكبرلي حاكماً على الجزائر، وأعلن تمرده على القرار برفضه السماح للوالي العثماني الجديد بالنزول إلى ميناء الجزائر، لكن البحرية سمحت بتولي الحاكم الجديد لمنصبه، وقامت باعتقال الرايس قورصو، قبل أن يموت بعد ثلاثة أيام من اعتقاله، وذلك في أغسطس/آب 1556.
كان الرايس قورصو من أكثر الشخصيات العسكرية التي تركت أتباعاً لها داخل مؤسسة الجيش العثماني، لذا لم يتأخر انتقام أتباعه كثيراً، فبعد فترة وجيزة قتل أحد أتباع الرايس قورصو البايلرباي الجديد محمد تكبرلي، انتقاماً لقورصو.
مدينة جزائرية باسم الرايس قورصو
ورغم النهاية المأساوية للرايس قورصو، فإنه يعدّ من الشخصيات العسكرية التي تركت أثراً كبيراً بالجزائر، إلى حدّ أن إحدى المدن الجزائرية خلّدت اسم الرايس قورصو من خلال إطلاق تسمية قورصو على إحدى بلديات ولاية بومرداس الجزائرية، وهي المدينة التي كان الرايس قورصو يرتادها بعد العودة من غزواته ومعاركه البحرية.
ومن بين الشخصيات العثمانية التي سُميت بها مدن جزائرية، نجد أيضاً مراد رايس، الذي سميت مدينة بئر مراد رايس باسمه، ومدينة الرايس حميدو بالجزائر العاصمة.