اشتهر غابرييل بروسر بذكائه وثقافته الواسعة، مقارنةً بأبناء جيله؛ كان "عبداً" تابعاً لسيّده "الأبيض"، ويتميّز بكونه صاحب مظهرٍ أنيق ويتحدث بطلاقة وثقة تنمّان عن معرفة وسعة اطلاع، ما جعل رفاقه ومعاصريه ينظرون إليه كرجلٍ حرّ جدير بالاحترام.
ويُمكن القول إن وعي بوسر السياسي كان تقدمياً، وقد سمح له بالتفكير في قيادة ثورةٍ للعبيد في ولاية فيرجينيا الأمريكية، ورسم خطة مُحكمة لتنفيذها. لكن الظروف الطبيعية بالدرجة الأولى، ثم الخيانة، منعتاه من تحقيق طموحه الكبير.
ويعتقد بعض المؤرخين أنّه، لولا العاصفة الهوجاء التي وقعت ليلة الانقلاب الكبير، لكانت الثورة نجحت. ومن يدري، لربما كانت غيّرت مجرى تاريخ الولايات المتحدة.
وُلد غابرييل بروسر حوالي سنة 1775، بالقرب من مدينة ريتشموند في ولاية فيرجينيا الأمريكية. والدته إفريقية الأصل، وهو كان عبداً لسيّده توماس بروسر، وقد أخذ لقبه؛ على غرار كل عبيد أمريكا، الذين كانوا يُسمّون بألقاب أسيادهم.
لا توجد معلومات كثيرة عن حياة بروسر قبل الثورة التي قادته نحو "الشهرة"، باستثناء أن له شقيقين، سولومون ومارتن، إضافةً إلى زوجة تُدعى ناني. وقد كانوا جميعاً تابعين أيضاً إلى سيّدهم "بروسر" في مقاطعة هنريكو بفريجينيا، وشاركوا في تنظيم الانتفاضة.
غابرييل بروسر.. تأثر بثورة العبيد في هايتي
كان حداداً ماهراً ومثقفاً يجيد القراءة والكتابة، ما كان يُعتبر نادراً في ذلك الزمن. ففي الفترة التي عاش فيها غابرييل بروسر، كانت نسبة العبيد الذين يُجيدون القراءة والكتابة بالمناطق الجنوبية للولايات المتحدة تُقدّر بـ5% فقط، ما جعله يحظى باحترامٍ كبير بين رفاقه "العبيد".
ووفقاً لموقع The African Americans، فإنه كان طويل القامة (أكثر من 1.83 متر) ويرتدي ملابس جميلة عندما يكون خارج ورشة الحدادة. فيما نقل موقع Black Past الأمريكي عن أحد الذين عاصروه قوله -الذي ينطوي على بعضٍ من عنصرية ذلك الزمن- بأنه رجلٌ شجاع ذو ذكاء، "ويفوق مكانته في المجتمع".
أما المؤرخ الأمريكي دوغلاس إيغرتون، فقد ذكر في كتابه Gabriel's Rebellion أن بروسر كان يتمتع بنوعٍ من الحرية مقارنةً بـ"العبيد الآخرين، وأن علاقة التبعية بسيّده بروسر الابن -بعد وفاة بروسر الأب سنة 1798- كانت جدّ ضعيفة إلى درجة أن بعض المؤرخين وصفوه بأنه كان رجلاً حراً.
ولعلّ أبرز سببٍ في تمتع غابرييل بالحرية النسبية هو أنه لم يكن يعمل في مزارع "سيّده"، بروسر الإبن، بل إنّ هذا الأخير كان "يؤجره" لأسيادٍ آخرين على مدى أشهر، للعمل لديهم في وسط مدينة ريتشموند؛ ما كان يسمح له الاحتفاظ لنفسه ببعض النقود الإضافية، والاحتكاك بالحرفيين، والعمال الآخرين، و"العبيد المُحرَّرين".
وبحكم ثقافته واطلاعه على ما يجري في الولايات المتحدة وفي العالم، فقد تأثر غابرييل بروسر بالثورة الفرنسية عام 1789، وكان شعارها "الحرية والمساواة والأخوة. كما تأثر بثورة العبيد في سان دومينك (هايتي حالياً) والتي كانت في ذلك الوقت مستعمرة فرنسية.
تأثر أيضاً بالحماس السياسي السائد في الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت، مع إنشاء الحزب الجمهوري الديمقراطي من قِبل توماس جيفرسون في العام 1791.
فقد كان غابرييل بروسر يرى أن الأيديولوجية الديمقراطية لجيفرسون تشمل مصالح العبيد السود والعمال البيض الذين يمكنهم، في حال اتحادهم، مواجهة طبقة التجار الفيدراليين القمعيين، الموالين لما يُعرف بـ"الحزب الفيدرالي".
رسم خطة محكمة لبداية الثورة
رسم غابرييل بروسر رفقة أبرز مساعديه من العبيد، جاك باولر وجورج سميث، خطة للسيطرة على مدينة ريتشموند -عاصمة ولاية فيرجينيا- في البداية.
وكانت خطتهم تنصّ على قتل كل السكان "البيض" باستثناء الفرنسيين، وأتباع الطائفتين المسيحيتين: المناهجية (الميثودية)، وجمعية الأصدقاء (الكويكرز)، ومن ثم تأسيس مملكة فيرجينيا، ويكون هو -أي غابرييل- ملكاً عليها.
وأشارت صحيفة The Washington Post الأمريكية أن غابرييل بروسر كان يخطط لتحرير كل عبيد فيرجينيا، إذ تضمنت خطته أخذ حاكم الولاية (جيمس مونرو) كرهينة وإقناعه بتحريرهم، عند الوصول إلى ريتشموند.
جيمس مونرو، الذي أصبح لاحقاً رئيساً للولايات المتحدة، كان الساعد الأيمن لتوماس جيفرسون، أي من أنصار الحزب الجمهوري الديمقراطي الداعي للحرية والعدالة. ولذلك فإنّ بروسر كان يعتقد أنه لن يجد صعوبات كبيرة في إقناع الحاكم بتحرير كل عبيد الولاية، من دون مقاومة شديدة.
وحدّد بروسر ليلة 30 آب/أغسطس 1800 موعداً لبداية الثورة. وعمل خلال الأشهر التي سبقت انطلاقها على تجنيد مئات العبيد الداعمين لقضيته، وتنظيمهم ضمن وحدات عسكرية.
أرادهم أن يكونوا مسلّحين بالسيوف والحراب المصنوعة من الأدوات الزراعية، بواسطة الحدادين، وأن يقوموا بالاستيلاء على الأسلحة عند مباغتتهم لأسيادهم العبيد وحراسهم.
وبحسب مراجع تاريخية عدة، فإن غابرييل بروسر كان يراهن على جمع نحو 1000 متمرّد، كما كان يأمل أن ينضمّ إلى ثورته -عند الوصول إلى مدينة ريتشموند- العبيد المُحرَّرين والسكان "البيض" الداعمين للعدالة والأخوة، على غرار طبقة العمال البسطاء ومنتسبي جماعة الأصدقاء الدينية (الكويكرز).
الخيانة مهّدت لإفساد الخطة والقبض على بروسر
خطّط غابرييل بروسر لكل شيء، لكن ثقته بالعبيد كانت زائدة وعمياء، إلى درجة أنه لم يضع في الحسبان إمكانية تعرّضه للخيانة من البعض.
في موعد الانتفاضة المفترضة، 30 آب/أغسطس 1800، كشف اثنان من العبيد لـ"سيّديهما" اقتراب موعد الثورة. فسارع السيّدان إلى إبلاغ سلطات ولاية فيرجينيا بالخطر الآتي، ما دفع الحاكم جيمس مونرو إلى استدعاء ميليشياته العسكرية من أجل الاستعداد للمعركة.
وفي تلك الفترة من بداية القرن 19، لم يكن لولاية فيرجينيا -كغيرها من الولايات المتحدة- جيشاً نظامياً مُتمركزاً في ثكنة عسكرية، بل ميليشيا عسكرية مؤلفة من جنودٍ يعيشون حياتهم المدنية ويتمّ استدعاؤهم وقت الحاجة. وكان يحتاج قائد الميليشيا، ومساعدوه، الاتصال بهم واحداً واحداً في حال طرأت أي مهمة.
ولذلك، وعلى الرغم من الخيانة فإنّ حاكم ولاية فيرجينيا لم يكن له الوقت الكافي لجمع جنود ميليشياته قبل بداية الثورة ليلة 30 أغسطس/آب. ولكن حدوث عاصفة هوجاء في تلك الليلة أدى إلى تأجيل بداية الثورة لـ24 ساعة، ما منح الحاكم وقتاً كافياً للاستعداد.
فقد تسببت تلك العاصفة، التي صاحبها هطول أمطار غزيرة جداً، في قطع الطرقات وتدمير الجسور ما أدى إلى استحالة تجمع المتمردين في المكان المتفق عليه خارج مدينة ريتشموند. وما دفع بالتالي غابرييل بروسر ومساعدوه لاتخاذ قرار تأجيل انطلاق الانتفاضة إلى الليلة التالية.
ولكن عندما وصلهم خبر الوشاية وتجمُّع الميليشيا العسكرية لولاية فيرجينيا، قرر غابرييل ورفاقه إلغاء كل شيء، فتفرّقوا جميعاً وهرب بروسر وأنصاره نحو مناطق ريفية بعيدة عن ريتشموند.
أُلقي القبض على ما يُقارب الـ35 من قادة التمرّد وتمّ إعدامهم، في حين نجح غابرييل بروسر في الهروب إلى مدينة نورفولك المجاورة، لكنه تعرّض للخيانة من عبيد آخرين طمعوا في نيل مكافأة القبض عليه.
فتمّ تسليمه إلى السلطات المحلية؛ وفي 25 سبتمبر/أيلول 1800 حوكم بروسر في ريتشموند، وأُدين بتهمة التخطيط وقيادة انتفاضة، وأُعدم في اليوم التالي.