لا يمكن مطلقاً تسمية الجنرال فرانكو على أنه صديقٌ لبريطانيا، ولكن من خلال عدم تعاونه مع النازيين خلال "عملية فيليكس"، التي وضعها الألمان للسيطرة على جبل طارق، والذي كانت تستعمله القوات الملكية البريطانية قاعدة بحرية استراتيجية مهمة، لا يزال هذا المضيق في أيدي البريطانيين إلى اليوم.
فقد كان الألمان سنة 1940، يضعون خطة سرية تدعى "عملية فيليكس"، والتي من خلالها أراد هتلر السيطرة على مضيق جبل طارق، ومن ثمّ السيطرة على الشمال الإفريقي المستعمر من قِبل قوات الحلفاء.
جبل طارق.. مفتاح السيطرة على غرب البحر المتوسط
في 26 يونيو/حزيران 1940، استسلمت فرنسا للقوات الألمانية، وعندها أصبح من الضروري على الحلفاء تجميع قوة بحرية يمكن أن تهيمن على غرب البحر الأبيض المتوسط، مما دعا بريطانيا إلى سيطرتها على مضيق السويس، وإرسال أسطولها للسيطرة على جبل طارق.
كانت القوة H، المتمركزة حينها في مضيق جبل طارق، تتكوّن من البوارج HMS Valiant وHMS Resolution، حاملة الطائرات، طراد المعركة HMS هود، الطرادات HMS Arethusa وHMS Enterprise جنباً إلى جنب مع 11 مدمرة أخرى.
بعد أن توصلت ألمانيا إلى هدنة مع الحكومة الفرنسية، أصبح الأسطول الفرنسي، الذي كان ثاني أكبر قوة بحرية بعد البحرية الملكية البريطانية، تحت سيطرة حكومة فيشي الموالية لألمانيا.
في الـ3 من يوليو/تموز عام 1940، فتحت القوة H البريطانية النار على الأسطول الفرنسي الراسي في المرسى الكبير بوهران الجزائرية، في اطار عملية المنجنيق، وذلك بعد أن شعر الحلفاء بأنّ وقوع الأسطول الفرنسي في يد الألمان سيؤدي في النهاية إلى خسارتهم لمنطقة المتوسط، وردّت حكومة فيشي بأوّل هجوم جوي ضد جبل طارق.
ساعد هذا الإجراء في إقناع هتلر بأن أي أعمال واسعة النطاق في البحر الأبيض المتوسط ستكون خطرة، إذا كانت بريطانيا تسيطر على جبل طارق.
فرانكو الذي رقص على حبال الألمان ومنعهم من السيطرة على جبل طارق سنة 1940
كان هناك عدد من المشاكل التي يجب حلها قبل الهجوم على جبل طارق، ليس أقلها الحصول على اتفاق من فرانكو بأن القوات الألمانية يمكن أن تستخدم الأراضي الإسبانية في الغزو.
في يونيو/حزيران 1940، أرسل الجنرال فرانكو رسالة إلى هتلر، يعرض فيها الانضمام إلى قوى المحور، لكنّه وضع شروطاً لم يقبلها هتلر، كانت تلك الشروط أن تساعد ألمانيا الإسبان في السيطرة على المغرب والكاميرون، وكذلك على جبل طارق.
كان هتلر يريد السيطرة على المغرب، لأنه كان يعتقد أنه سيخوض حرباً بحرية في نهاية المطاف مع الولايات المتحدة، كما أراد الكاميرون لألمانيا، لأنها كانت مستعمرة سابقة لبلاده، مع ذلك كان هتلر بحاجة لفرانكو من أجل جبل طارق.
ورغم عدم التوافق مع فرانكو، واصل الألمان مساعيهم من أجل حلحلة الصعوبات أمامهم للسيطرة على جبل طارق.
بحلول 12 يوليو/تموز، تم إعداد الخطة الأوّلية لغزو جبل طارق، وبعد 10 أيّام، انطلقت مهمة استطلاع بملابس مدنية وجوازات سفر مزورة إلى مدريد.
في 23 يوليو/تموز، التقى الأدميرال كاناريس، قائد البعثة السرية الألمانية، بالجنرال فرانكو، وطلب المساعدة الإسبانية لإعداد خريطة لدفاعات جبل طارق استعداداً للهجوم الألماني المنتظر.
لم يكن فرانكو سعيداً تماماً بالمخطط، ولكنه سمح لكاناريس ورجاله بالسفر إلى الجزيرة الخضراء وإنشاء نقاط استطلاع.
في تلك الأثناء، أرسلت بريطانيا القائد إيان فليمنغ، والذي يعمل في شعبة الاستخبارات البحرية البريطانية، إلى جبل طارق، حيث ساعد في إنشاء "عملية العين الذهبية"، والتي كانت خطة لمراقبة إسبانيا في حالة وجود تحالف بين فرانكو وألمانيا والقيام بعمليات تخريبية داخل إسبانيا.
في 23 أكتوبر/تشرين الأوّل 1940، التقى فرانكو وهتلر شخصياً للمرة الأولى والوحيدة في Hendaye بفرنسا عبر الحدود مع إسبانيا على ساحل المحيط الأطلسي، في هذا اللقاء عرض فرانكو مرة آخرى الانضمام إلى المحور، لكنه طالب بالمزيد من الشروط، بما في ذلك تحصين جزر الكناري، وكذلك شحنات القمح والمركبات والأسلحة والطائرات.
كانت تلك المطالب شيئاً لا يمكن أن يلبيه الألمان، وحتى يومنا هذا، لا يزال الجدل قائماً بين المؤرخين حول ما إذا كان فرانكو جشعاً، أم أنه قدّم بذكاء مطالب يعرف أنه لا يمكن تلبيتها حتى يتمكن من البقاء بعيداً عن الحرب.
في كلتا الحالتين، لم تسفر المحادثات عن أي جديد، وظلت إسبانيا محايدة، إلى حد كبير، لأنها اعتمدت على شحنات النفط من الولايات المتحدة، وكانت البلاد لا تزال تتعافى من الحرب الأهلية، ولأنه أصبح من الواضح بحلول هذا الوقت أن ألمانيا قد تخسر معركتها أمام بريطانيا.
دورٌ مشبوهٌ للأدميرال كاناريس في إقناع فرانكو بالحياد
كانت هناك عدّة دلائل على صعوبة القرار الإسباني بعدم التعاون مع الألمان في جبل طارق، فقد كانت إسبانيا تحاول التعافي من حرب أهلية خرّبت البلاد ودمّرت اقتصادها، وكان لابد من استيراد الكثير من المواد الغذائية والمواد الأساسية لإسبانيا من المستعمرات السابقة في أمريكا الجنوبية، وكان من الضروري أن تستمر السفن التجارية الإسبانية والسفن الدول المحايدة التي تتاجر مع إسبانيا في السفر بأمان عبر المحيط الأطلسي.
كما كان الجنرال فرانكو يدرك جيداً أنه إذا سمح للقوات الألمانية باستخدام الأراضي الإسبانية لمهاجمة جبل طارق، فسيتم قطع شريان الحياة في المحيط الأطلسي، وربما كان يدرك أيضاً أنه في حالة دخول القوات الألمانية إلى إسبانيا، فإنّ بريطانيا خططت للاستيلاء على جزء كبير من جنوب غرب إسبانيا واحتلاله، مع ذلك ربط البعض رفض فرانكو التعاون مع هتلر بدورٍ مشبوهٍ قام به مبعوثه كاناريس.
فقد كان الأدميرال كاناريس مشهوراً بمعارضته لهتلر، مع ذلك كان المكلّف بمهمة إقناع فرانكو بتسهيل عملية فيليكس، بسبب علاقاته مع الدوائر الإسبانية وإتقانه للغة الإسبانية كذلك.
بحسب بعض المصادر التاريخية، شجّع كاناريس الجنرال فرانكو على عدم الانضمام إلى المحور، كما أعلن كاناريس أنه بدون مدفع هجوم ثقيل 380 مم (15 بوصة) والذي كان يعلم أنه غير متوفر لدى الألمان، فلا يمكن الاستيلاء على جبل طارق.
وأخيراً قال للمشير فيلهلم كيتل إنه حتى لو تمكنت ألمانيا، بالتعاون مع إسبانيا، من الاستيلاء على جبل طارق، فإن البريطانيين سيهبطون في المغرب وغرب إفريقيا، وهي التصريحات التي اعتبرت أنّ كاناليس كان ضدّ مخطط هتلر في الاستيلاء على جبل طارق، كما أنه كان أحد الضباط الذين حاولوا في البداية إقناع هتلر بالهجوم على بريطانيا عوض الالتفات إلى البحر المتوسط.
فشل عملية فيليكس قبل أن تبدأ
رغم الرفض الإسباني للدخول إلى حلف المحور، كان الاهتمام الألماني بجبل طارق قائماً، وكانوا قد وضعوا اللمسات الأخيرة على "عملية فيليكس" حتى قبل لقاء هتلر مع فرانكو.
كانت "عملية فيلكس" في البداية مجرد جزء من عملية "أسد البحر"، والتي كانت بمثابة خطة لغزو بريطانيا.
بحلول نوفمبر/تشرين الثاني 1940، أصبحت "عملية فيلكس" قيد التنفيذ، وكانت فكرة الخطة إرسال فيلق من الجيش الألماني إلى إسبانيا من فرنسا.
في نهاية أكتوبر/تشرين الثاني 1940، اتخذت إيطاليا قراراً بمهاجمة اليونان، وكان لابد من دعمها من قبل حليفتها ألمانيا. بدأ هتلر أيضاً في التفكير في شن هجوم على السوفييت لن يترك له ما يكفي من القوات لعملية فيلكس.
في ديسمبر/كانون الأوّل، أطلع الجنرال هالدر قائده هتلر على أن عملية فيليكس ستستمر 4 أسابيع، وأنه سيكون لها الوقت الكافي حتى آخر مايو/أيار لبدء هجومٍ آخر على السوفييت في يونيو/حزيران.
مع ذلك، كان القرار الأخير للشروع في عملية فيليكس بيدٍ غير ألمانية، فى 10 يناير/كانون الثاني 1941، جرت محاولة أخيرة لإقناع فرانكو بالسماح بتوغل ألماني في إسبانيا والهجوم على جبل طارق الذي كان سيبدأ في الـ4 فبراير، لكن كل المحاولات لإقناع فرانكو فشلت، كان شرط فرانكو هذه المرة هو أنه لن يدخل الحرب إلّا في حالة انهيارٍ وشيكٍ للبريطانيين.
وضع رفض فرانكو حداً فعلياً لعملية فيلكس.
بحلول نهاية شهر ديسمبر/كانون الأوّل، كان هتلر قد قرر بالفعل مهاجمة الاتحاد السوفييتي في الصيف المقبل، وشرع في التحضير لغزوه، بينما بدأ الحلفاء في استعراض قوتهم في ليبيا وشرق إفريقيا واليونان.