لم تكن قوات الحلفاء الوحيدة التي نفذت عمليات الخداع والتضليل في الحرب العالمية الثانية، ففي المعركة الأخيرة ضد قوات الحلفاء التي دارت رحاها حول بلجيكا واشتهرت باسم معركة الثغرة، ابتكر هتلر خطة سرية للغاية لدرجة أن العديد من الضباط الألمان ظلوا غير مدركين لوجودها حتى يوم إطلاقها، تضمنت هذه الخطة، التي أطلق عليها اسم عملية جريف، الدفع بجنود ألمان متنكرين في زي الحلفاء لعبور خطوط الحلفاء وإحداث الفوضى في معسكراتهم عبر تدمير فوق نهر الميز.
في الواقع كانت عملية غرايف السرية مقتبسة من خطة سابقة للحلفاء، ففي خريف عام 1944، كان لعناصر من الجيش الأمريكي الذين كانوا يرتدون الزي العسكري الألماني دور أساسي في المساعدة في الاستيلاء على أول مدينة ألمانية تسقط في أيدي الحلفاء، وهي مدينة آخن، ومن ذلك المنطلق خطط هتلر لآخر خططه لتغيير مسار الحرب في معركة الثغرة.
عملية غرايف.. خطة هتلر السرية لتغيير مجرى الحرب العالمية الثانية
على الرغم من أن نجاح إنزال النورماندي قد سمح للحلفاء بتأسيس موطئ قدم لهم في أوروبا، إلا أنّ الوضع في القارة كان بعيداً عن الاستقرار، فقد كانت إحدى المشكلات الرئيسية لقوات الحلفاء هي أن الإمدادات لا يمكن أن تعبر القناة إلا في النورماندي، وأنه كلما زاد توغل البريطانيين والأمريكيين إلى الداخل، أصبحت خطوط الإمداد الخاصة بهم ضيقة أكثر.
في تلك الأثناء، وباستخدام نهر الراين، رسم هتلر خططاً جديدة له من المحتمل أن تضاعف مشاكل الحلفاء في ضمان الإمدادات.
كان هتلر ينوي حشد قواته في أوروبا الغربية لشن هجوم مضاد واسع النطاق ضد قوات الحلفاء المنتشرة بشكل ضعيف في غابات آردين على الحدود البلجيكية الفرنسية، أمّا هدفه الرئيسي فكان قطع خطوط إمداد الحلفاء واستعادة أنتويرب ومينائها الحيوي.
أراد هتلر أولاً الاستيلاء على جسور نهر الميز ثم تدميرها، وذلك عبر شنّ عمليةٍ سرية عرفت باسم عملية غرايف.
كان أمل نجاح الخطة الوحيد يكمن في مفاجأة البريطانيين والأمريكيين بالكامل؛ لذلك ظلت خطة هتلر سرية للغاية لدرجة أن العديد من الضباط الألمان ظلوا غير مدركين لوجودها حتى يوم إطلاقها.
حتى الضباط الذين علموا بالخطة كانوا متشككين في فرص نجاحها، حيث علق أحدهم بشكل قاتم، "لم يكن للهجوم بأكمله أكثر من 10٪ فرصة للنجاح". ومع ذلك، لم يكن هتلر شخصاً يترك الأمور لمجرد الصدفة وكان لديه الرجل فقط للتغلب على الاحتمالات لصالحه.
سكورزيني أخطر رجل في أوروبا يقود عملية غرايف
في 20 أكتوبر/تشرين الأوّل من عام 1944، استدعي هتلر ضابطه المفضل أوتو سكورزيني والذي كان يوصف بأخطر رجلٍ في أوروبا، وأطلعه على ما وصفه الفوهرر بأنه "أهم "مهمة" في حياتك".
وأوضح أن ما احتاجه هتلر من سكورزيني هو نسخة نازية من حصان طروادة الشهير، الذي يخترق خطوط العدو عن طريق التخفي، ويقوم بالاستيلاء على الجسور الرئيسية في نهر الميز وتدميرها.
في البداية، كان سكورزيني متردداً، لأنه كان يعلم أن فرص الفشل في عملية غرايف كبيرة، وأن ارتداء هذا الزي الرسمي يعني أنه ورجاله إذا تم كشفهم وأسرهم، فإنهم يعاملون بصفة جواسيس ويعدموا على الفور، ومع ذلك، قبل سكورزيني المهمة وأعطي 6 أسابيع للتحضير وحظي بدعمٍ كبيرٍ من هتلر من أجل تجميع هذا اللواء الجديد.
طلب سكورزيني 3300 رجل لكنّه تسلم 2500 من جميع أركان القوات المسلحة الألمانية، بحيث ساهم كل من الجيش Heer و Luftwaffe و Kriegsmarine و Waffen SS في تكوين كتيبة سكورزيني الجديدة من أجل عملية غرايف، مما جعل المجموعة بأكملها فريدة من نوعها.
تم إرسال طلب لتجنيد جميع الجنود الذين يجيدون اللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى اللهجة الأمريكية والعامية. كما تم إرسال طلبات للحصول على كمية كبيرة من الزي الرسمي والمركبات والأسلحة الصادرة من الولايات المتحدة.
مع ذلك واجه سكورزيني بعض المشاكل، فقد انتهى الأمر بكميات كبيرة من الزي الرسمي البولندي والروسي في الوحدة، حيث لم يكن أحد يعرف حقاً شكل الملابس الأمريكية، كما كانت القدرات اللغوية أيضاً مشكلة، حيث كان حوالي 300 رجل فقط من بين 2500 رجل لديهم لغة انجليزية متوسطة.
كان الحصول على الزي الرسمي والأسلحة والمعدات اللازمة مشكلة كبيرة، لذلك لجأوا ببساطة إلى طلاء وتمويه الدبابات والمركبات الألمانية لتصبح شبيهة بالأمريكية، تم إنتاج العديد من أنواع المركبات بدقة عالية، حتى إن المتخصصين في بعض الأحيان، وجدوا صعوبة في تحديد الصديق من العدو.
ومن أجل إيجاد طريقة للتمييز بين الأعداء الحقيقيين والمزيفين، تم اختراع نظام بارع إلى حد ما. اشتملت على شارات طلاء سرية، ومواقع محددة لمدفع دبابة، وأوشحة ملونة مختلفة وإشارات مصباح يدوي تمّ وضعها تحت تصرف كتيبة سكورزيني في إطار عملية غرايف.
بالإضافة إلى ذلك، تم استخدام علامات الكلاب الأمريكية التي تم الاستيلاء عليها من الجنود أسرى الحرب الذين سقطوا، وتم تزوير الأوراق لإضفاء المصداقية على هوية الجنود الأمريكيين المزيفين.
عملية غرايف كانت تستهدف خطوط إمداد الحلفاء
وفقاً لـ allthatsinteresting، كانت عملية غرايف تهدف إلى تدمير الجسور وأماكن الذخيرة ومخازن الوقود في أراضي الحلفاء مع تمرير أوامر كاذبة في نفس الوقت إلى أي وحدات أمريكية واجهها الألمان، وعكس إشارات الطرق، وإزالة تحذيرات حقول الألغام، وإغلاق الطرق بتحذيرات مزيفة. كما كان من المتوقع أن تعيق قوات الكوماندوز الاتصالات الأمريكية بقطع أسلاك الهاتف ومحطات الراديو، كان الهدف ببساطة إشاعة الفوضى في معسكر الحلفاء.
تم تقسيم كتيبة "بانزر 150" إلى 3 مجموعات، لكل منها هدف أساسي هو أخذ جسر معين فوق نهر الميز، لكن الازدحام المروري الهائل في بداية المهمة جعل الأمر مستحيلاً، وتقرر أنه بدلاً من الانقسام، يجب أن يقاتلوا كقوة واحدة.
في النهاية، لم يُحدث الجزء الأكبر من رجال اللواء البالغ عددهم 2500 فرد، أي فرقٍ يذكر في الطبيعة السرية للعملية، وفشلوا في السيطرة على أي من الجسور، وبالتالي بدأوا العمل بشكل تقليدي تماماً وغير ناجح، وذلك وفقاً لتقرير لموقع sofrep.
ومع ذلك، فإن وحدة صغيرة داخل الكتيبة، تُعرف باسم "أينهايت ستيلاو"، وتتألف من 44 رجلاً فقط ممن لديهم نطق صحيح للإنجليزية، كانت مسؤولة عن التسبب في غالبية الارتباك والاضطراب والفوضى التي حدثت.
في الواقع، وقعت العديد من الحوادث، ولو أنّ بعضها مضحك إلى حد ما، وبعضها الآخر مأساوي.
كان الألمان يتجولون في سيارات الجيب الأمريكية، وهم يرتدون الزي العسكري، وكانوا يحاولون إحداث الفوضى أينما كانوا. كانوا يغيرون اللافتات ويضللون حركة المرور وينشرون قصصاً كاذبة في كل مكان.
في إحدى الحالات، تمكنوا من توجيه فوج أمريكي بأكمله يضمّ حوالي 1500 جندي في الاتجاه الخاطئ.
الفوضى الكبيرة.. كان اختطاف أيزنهاور ومونتغمري في إطار عملية غرايف
حسب historyofyesterday، وصلت فوضى عملية غرايف إلى ذروتها حين سمح سكورزيني باعتراض قوات الحلفاء لمستند مزيف يتضمن مهمة اختطاف أيزنهاور من قِبل سكورزيني نفسه، كانت تلك الرسالة مزورة بشكل جيد لدرجة أن الجنود الألمان في العملية كانوا يعتقدون أنها صحيحة.
تم أخذ الرسالة على محمل الجد، خصوصاً أنها تحمل اسم سكورزيني، مما أدى إلى أن يقضي أيزنهاور في الإقامة الجبرية من أجل سلامته.
كما تمّ اعتقال برنارد مونتغمري، بطل حرب الصحراء، من قبل رجاله واحتجز لساعات، وذلك بعد أن انتشرت شائعات مفادها أن سكورزيني زرع شبيهاً لمونتغمري خلف خطوط العدو! تم استجوابه باستمرار حتى أثبت أنه في الواقع، مونتي "الحقيقي".
ونفس الأمر حدث مع جنرال أمريكي آخر، هو بروس كلارك، الذي احتجز لما يقرب من 5 ساعات.
في حين أن هذه الفوضى التي أحدثتها عملية غرايف كانت مصدر إزعاج صغير إلى حد ما لقوات الحلفاء، لكنها وضعت معظم القادة المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين في الإقامة الجبرية، وقيّدت جهوده في مرحلة من مراحل معركة الثغرة.
كما ذهب العديد من الضحايا نتيجة لتلك الفوضى، فقد أصيب عدد من الجنود الأمريكيين أو قُتلوا على يد زملائهم عن طريق الخطأ، كنتيجة مباشرة لخطأ في تحديد الهوية.
رغم فوضى عملية غرايف.. خسر هتلر آخر معاركه الكبرى في الحرب العالمية الثانية
بعد فترة، وبعد توالي ضربات الحلفاء، تم سحب اللواء 150 بانزر من هجوم آردن بحلول نهاية ديسمبر/كانون الأوّل ومطلع يناير/كانون الثاني 1945، في تلك الأثناء سحق الأمريكيون آخر هجوم ألماني كبير في الحرب، وهي معركة الثغرة، وذلك بعد أن فشلت عملية غرايف في القيام بأكثر من إرباك القوات الأمريكية لبعض الوقت.
وفي النهاية، تم التعرف على معظم الجنود الألمان في فوج "أينهايت ستيلاو" وأسروا، فمن بين 44 جندياً في الوحدة، تمّ إعدام 17 ألمانياً، بينما نجح 8 رجال فقط إلى العودة إلى ألمانيا بأمان.