"شكسبير المصري".. هكذا لُقب الكاتب المجهول الذي كتب قصة "سنوحي" في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، حيث وُصفت قصته بأنها أفضل ما أنتج الأدب المصري القديم.
قصة سنوحي.. أروع ما أنتج الأدب المصري القديم
يختلف علماء المصريات حول تلك القصة، فمنهم من يقول إنها تروي حكاية شخصية حقيقية عاشت بالفعل في العصور القديمة ومنهم من يعتقد أنها قصة من نسج الخيال، وفي الحالتين تعتبر واحدة من أهم القصص في الأدب المصري القديم. ولأنها جمعت العناصر الأساسية التي تجعل منها قصة "عالمية"، فقد لقب العلماء كاتبها المجهول بـ"شكسبير المصري".
كتبت قصة الملك سنوحي عام 1875 قبل الميلاد، ولم يكتفِ كاتبها بسرد الأحداث التي عايشها بطل الحكاية، بل وضع تلك الأحداث في إطار فلسفي وناقش قضايا مثل "العناية الإلهية" و"الرحمة". ووفقاً لعلماء المصريات، يوجد لأفكار هذا الكاتب نظائر في نصوص من الكتاب المقدس.
ويعتقد العلماء أن النص كتب بصورة شعرية، وأن المصريين القدماء كانوا ينشدون هذه الحكاية، ومن المرجح أن قصة "الملك سنوحي" حازت شعبية واسعة في العصور القديمة، والدليل على ذلك نجاة نسخ عديدة منها إلى يومنا هذا.
فقد وُجدت قصة سنوحي مكتوبة على أوراق البردي، كما وجدت مكتوبة باللغة الهيراطيقية على قطعة كبيرة من الحجر الجيري، ويبلغ طول تلك القطعة قرابة 0.9 متر، وهي موجودةٌ اليوم في المتحف المصري بالقاهرة.
ما هي قصة الملك سنوحي؟
تدور أحداث هذه القصة في أعقاب وفاة الفرعون أمنمحات الأول، مؤسس الأسرة الثانية عشرة. أما بطل القصة فهو سنوحي، الذي يقال إنه كان خادماً للملك أمنمحات الأول.
تبدأ القصة مع تشكيل الملك حملة عسكرية بقيادة ابنه سنوسرت الأول، مهمتها القضاء على "التحنو" وهي مجموعة قبائل ليبية، وبالفعل يتوجه سنوسرت إلى أرض العدو بصحبة جيشه وعدد من المرافقين كان سنوحي من ضمنهم، ويتمكن من هزيمة التحنو. وبينما لا يزال سنوسرت بعيداً عن موطنه يأتيه خبر مروع، مفاده أن البعض تآمروا على والده واغتالوه، فيعود سنوسرت وحيداً على وجه السرعة إلى القصر الملكي دون أن يُعلم جيشه بذلك.
يسمع سنوحي عن طريق المصادفة بالخبر فيستبد به الخوف ويقرر الهروب، لتبدأ حينها رحلة سنوحي الذي يتيه بالصحراء ويكاد يموت من الظمأ، لكن من حسن حظه أن مجموعة من البدو يعثرون عليه ويقدمون له الماء والطعام ثم يأخذونه إلى قبيلتهم ويحسنون معاملته، بعد ذلك بدأ سنوحي بالتنقل من بلد لآخر حتى استقر به المطاف أخيراً عند أمير رتنو العليا (وهو اسم مصري قديم لكنعان وسوريا) ويدعى عاموننشي.
مع الوقت يصبح سنوحي مقرباً من الأمير، الذي يلمس فيه صفات مثل الحكمة والشجاعة، فيقرر تزويجه بإحدى بناته ومنحه أرضاً وافرة الخيرات مع أعداد كبيرة من الماشية. يستطيع سنوحي مع الوقت كسب حب الناس له، فيصبح قائداً لإحدى القبائل بالمنطقة، ويبلي بلاء حسناً في القضاء على حركات التمرد من رؤساء القبائل الآخرين، فيقربه الأمير عاموننشي إليه أكثر، ويفضّله حتى على أولاده. وعندما يكبر أبناء سنوحي يصبح كل منهم قائداً لقبيلة. ولا تخلو تلك الفترة من وجود حاقدين على سنوحي بسبب المكانة التي حظي بها، لكنه مع ذلك يستطيع التخلص منهم جميعاً دون أن يخسر مكانته عند الأمير.
وبعد فترة من الزمن يحن سنوحي إلى وطنه مصر، ويرغب في العودة إليها كي يُدفن هناك، وعندما يعلم الملك سنوسرت الذي أصبح خلفاً لأبيه بحال خادمه القديم، يصدر قراراً بالعفو عنه والسماح له بالعودة إلى مصر.
يصف الكاتب هنا رحلة سنوحي إلى مصر واستقبال الملك له، حيث تتعجب الملكة من تغير مظهره، إذ أصبح أشبه بالآسيويين من أهل البدو، لكن الملك يتعرف عليه رغم تغير حاله، ويسمح له بالإقامة بالقصر، حيث يتمتع سنوحي بالكرم الملكي حتى وفاته.
قصة مليئة بالرمزيات
قد تتشابه قصة سنوحي مع كثير من القصص التي وصلتنا من العصور القديمة، فعلى سبيل المثال تشترك معظم القصص اليونانية بتركيزها على بطل واحد يهجر أرضه لسبب ما ثم يخوض العديد من المغامرات في الغربة إلى أن يجتاحه الحنين إلى وطنه ويعود إلى دياره ليحظى هناك بنهاية سعيدة لقصته.
لكن علماء المصريات يعتقدون أن قصة سنوحي مميزة بشكل خاص؛ لاحتوائها على فلسفة عميقة ولكونها مليئة بالرمزيات.. فلنبدأ أولاً باسم البطل "سنوحي"، في اللغة المصرية القديمة "سنوحي" يعني "ابن الجميز"، والجميز نوع من أشجار التين، الذي يطلق عليه أيضاً اسم "تين فرعون"، وتعتبر شجرة الجميز في الثقافة المصرية القديمة "شجرة حياة"، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالآلهة حتحور إلهة الخصوبة والولادة وراعية البلدان الأجنبية، وهي آلهة كانت حاضرة بقوة طوال قصة سنوحي.
ويظهر مفهوم "العناية الإلهية" واضحاً في القصة من خلال إسقاطات ذكية على الأحداث الاعتيادية التي يمر بها سنوحي، ويحاول الكاتب تصوير رحلة سنوحي من مصر إلى سوريا ثم إلى مصر ثانية على أنها رحلة رسمتها له الآلهة من البداية حتى النهاية، فقد آمن المصريون القدماء بـ"الإرادة الحرة للبشر"، مع ذلك آمنوا أيضاً بأن الآلهة أنعمت عليهم ومنحتهم القدرة على الرؤية من خلالها، بمعنى أن الإنسان يختار ما يحلو له من الطرق في الحياة، لكن الآلهة في النهاية سترشده إلى الطريق الصحيح، وهذا ما حدث مع سنوحي الذي فر من وطنه واغترب عنه أعواماً، لكن العناية الإلهية أعادته في نهاية المطاف إلى حيث ينتمي، فقد كان "مخيراً ومسيراً" بالوقت ذاته، وآمن على الدوام بوجودها حوله، الدليل على ذلك قوله مخاطباً إياها: "سواء كنتُ في الوطن، أو كنت في هذا المكان، فأنت الذي يغطي هذا الأفق".
ويقارن علماء المصريات بين قصة سنوحي، والمسار العام لقصة النبي يوسف كما وردت في الكتاب المقدس، إذ هرب سنوحي المصري إلى كنعان وأصبح من النخبة الحاكمة، وحظي بزوجة وعائلة، ثم تم لم شمله مع عائلته المصرية بفضل العناية الإلهية، في حين ينتقل يوسف الكنعاني إلى مصر ويصبح من النخبة الحاكمة أيضاً، ويحظى بزوجة وعائلة، قبل أن يتم لم شمله مع عائلته الكنعانية بعناية الله.
كذلك قارن علماء المصريات المعركة التي جرت بين سنوحي وأحد منافسيه من رؤساء القبائل بالمعركة التي تشبه المعركة بين داود وجالوت .
ومن الجدير بالذكر أن هذه القصة شكلت مصدر إلهام للكاتب المصري الحائز جائزة نوبل، نجيب محفوظ، الذي كتب عام 1941 قصة بعنوان "عودة سنوحي"، وتستند قصته تلك بشكل مباشر إلى قصة سنوحي، إلا أن محفوظ أضاف بعض التفاصيل غير الموجودة في القصة الأصلية.