غربة ومواجهة المجهول.. تجربة شخصية للبحث عن الذات

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/17 الساعة 11:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/17 الساعة 11:49 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية/ shutter stock

هل لي أن أحدثكم عن الشعور الذي يزورني ألف مرة في اليوم؟ عن الدموع التي أجهضتها قبل أن تغادر مقلتيّ، أم عن المآسي التي انفردت بها لنفسي لكيلا يتظاهر الآخرون بالاهتمام بشجوني وأحزاني؟ أعرف أن لا أحد يأبه لـ"دراماتيكية" نوبة الحزن التي تنتابني من حين لآخر، وأكره أن أحظى بشفقتهم، هذا الشعور ليس حزناً، إنه إحساس يصعب على الكلمات أن تصفه، يشبه معانقة الأسى دون الذوبان فيه، يشبه مساء يوم الأحد وآخر يوم في موسم الصيف، ويقع هذا الإحساس بين اليأس والأمل، ولا يفصل بينهما سوى قدرتي على التحمل.

عندما أشعر بالعجز عن الكتابة يزورني هذا الشعور الغريب ليربت على كتفي مواسياً، يجف مداد أفكاري فأعود لمجالسة الحنين مرة أخرى، وأعود إلى أحضان الدهشة الفلسفية والأسئلة الوجودية.

هدوء.. هدوء ما قبل العاصفة

إن هدوء من قبل العاصفة أعرفه جيداً، بل إنني صرت أميّزه عن غيره من حالات السكون التي يتحلى بها الكون، فالحياة ليست لعبة الفقراء، لهذا في كثير من الأحيان أبحث عن الإلهام ولا أنتظره أن يعثر عليّ كما لا أجد ضالتي الثمينة، فلا شيء يفضي إلى أفكار تستحق النشر، كل شيء يحيل على الفراغ والعدم في تلك الأيام العسيرة حين لا أكاد أتعرف على نفسي وأفقد كل شعور بالهوية وكل إحساس بالانتماء، ورغم كل هذا فإنني لم أعتبر الفراغ عدواً لي يوماً، بل إنني تعودت أن أنتظر بفارغ الصبر تلك الأيام التي يسطو فيها الفراغ على نمط حياتي لأن في الفراغ رائحة تشبه رائحة الموت. 

وخلال تلك الأيام المعدودة أجد سلاماً داخلياً لا نظير له، وأقضي جل وقتي في تأمل أحوال هذا العالم الزائل ومتغيراته العديدة، بما فيها روح  الإنسان التي لا يمكننا الجزم بمصيرها بعد الموت، هذا الهدوء الذي أصبحت رهينة له يذكّرني بذلك الهدوء الذي كان يحاكي صقيع فصل الشتاء في الأيام الخوالي.

أجلس وحيدة يحيط بي خليط متجانس من الصمت والعدم، وكل شيء حولي يشي بانتقالي إلى حالة من الجمود الأبدي، وهو ذلك البعبع الذي يسمونه موتاً، فالظلام يضمني بشدة حتى أكاد أختنق، والخوف يعتصر قلبي ويهز كياني، والصوت الوحيد الذي كان يتحدى الصمت بجرأة عمل بليغ هو صوت المياه الجارية التي كانت تلامس جسدي المنهك، معاً يشكل النهر وجسدي لوحة تشكيلية هي كل ما تبقى لي وأنا في حالة مستعصية من الهلع الوجودي، تساءلت: "أين أنا؟ من أكون؟"، وفشلت فشلاً ذريعاً في الإجابة عن سؤالين بهذه البساطة.

كانت دهشتي بحالة الظلام والعدم تلك تتجاوز الدهشة العادية التي قد يعيشها أي إنسان عادي، كانت دهشة فلسفية تمخضت عن تجربة مألوفة لدي، وجزء من حياتي اليومية منذ ولادتي، دهشتي هذه المرة كانت من لحظة الوعي التي حالت بيني وبين موت رحيم، جئت إلى البحيرة بعد أن كنت قد انتهيت للتو من قراءة رواية "السيدة دالاوي" لفرجينيا وولف، وكنت أنوي أن أحذو حذو كاتبتي المفضلة، ولطالما تمنيت لنفسي نهاية جنائزية، ولكن يبدو أنني فشلت في تحقيق الشيء الوحيد الذي كنت أرغب فيه بشدة، والأسوأ من ذلك أنني الآن معلقة بين عالمين؛ عالم الأحياء وعالم الموتى، لم ينس أحد فرجينيا وولف، والدليل على ذلك أنني قرأت جميع أعمالها بعد وفاتها بسنوات عديدة، ولكن من كان ليذكرني لو رحلت؟!

من يشهد على وجودنا؟

هناك أدلة كثيرة تشهد على وجودنا، وهي تلك الأفكار التي ينتجها العقل البشري، الألم الذي يعري ذواتنا ويسقط أقنعة النفاق الاجتماعي، المأساة الإنسانية التي تتكرر ألف مرة في اليوم، ويثقل الوعي كاهلنا، ورغم ذلك ينتابنا الشك في الوجود، ماذا بوسعنا أن نصنع إذاً لنبلغ اليقين المنشود؟ لا شيء.. ما من دليل ملموس قادر على إقناعنا بما نكرهه ونكن له حقداً دفيناً.

لقد استحضرت مبدأ الكوجيتو لديكارت: "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، فكانت هذه الأفكار الخيط الوحيد الذي يربطني بالوجود وأنا مسجاة على نهر جارٍ بعد أن فشلت محاولتي لإطفاء شعلة الحياة في داخلي للمرة الأخيرة، فكان ذلك المجهود الروتيني السيزيفي يمتص مني السعادة والرغبة في العيش.

أنتمي إلى عالم يعيش فيه الناس حياتهم بوتيرة سريعة، ويصيبهم التعب في منتصف الطريق، ويتوجهون للجسور والبحار حينما تنتابهم بغتة جرأة ملحة ليضعوا حداً لآلامهم،  لم أكن بعملي هذا أخرج عن المألوف، بل كنت أتحرى عدم الخروج عن أعراف عالمي البئيس، فلا يمكن لأي إنسان ينتمي لعالم مثل عالمي هذا أن يعيش في عزلة عن الآخرين، حتى الفردانية التي كنت أرى فيها راحة مؤقتة أخذوها من بين يدي. 

كل يوم أتأكد من الطبيعة العبثية للحياة، أراها بكلتا عيناي، وأسمعها بأذني، أبحث في هذا الكون الشاسع عن معنى للوجود البشري القاسي وللآلام التي يفترض بها أن تصقل شخصياتنا وتعلمنا أسس النجاة في عالم الغاب، هناك أسئلة لا إجابة لها، تظل معلقة في مسامع المتلقي وفي ثغر السائل. 

الخوف من المجهول 

شيء ما لا أدري ما هو عالق في حلقي كما لو كان غصة شيء لا أعلم ماهيته، لكنني تعلمت أن أخافه لكونه شيئاً مجهولاً يرفض التعريف عن نفسه أو الخروج من مخبئه، أحمل كتابي معي لعله يحول بيني وبين هذا الوجود الصاخب للذات المبهمة، فكتابي هذا مهترئ قديم قد أكل عليه الدهر وشرب، أضمه لصدري كما لو كان يضمن لي الحصانة بشكل ما من نفسي وما قد يفعله بي هذا العالم الجديد، فيكاد زي الغربة الذي لبسته حديثًا ينسيني أنني لا أنتمي لوطني، وأنني غادرت لهذا السبب من الأساس، غادرت بحثاً عن انتماء في عالم آخر ينظر إلينا سكانه من أعالي عرشهم السياسي والاقتصادي ليتصدقوا علينا بعبارات تضامن سطحية تنضح شفقة ونفاقاً من حين لآخر، ها أنا أخرج عن الموضوع من جديد، وكان يجدر بي أن أتحدث عن ذلك الشيء المخيف الذي يلتف حول عنقي وخصري وحنجرتي، ولكن كل الطرق تؤدي إلى الحديث عن مستجدات الحياة، فالحياة ليست بذلك السوء الذي تصورته الفتاة اليافعة التي كنتها يوماً، تكون قاسية حيناً ثم تصبح أكثر حنواً شيئاً فشيئاً، ترينا تعدد أوجهها في مرآة مصائرنا. 

رحلة بين المألوف والمجهول 

يتردد صوت يجمع بين المألوف والمجهول ليذكرني بوجهتي الأخيرة على متن ترامواي الرباط، وكما لو أنني غريبة أتظاهر بالإصغاء المتمعن في الكلمات الثلاث التي لن تعني لي شيئاً بعد انتهاء عداد أيام عطلتي القصيرة، فأختلس النظر إلى أزقة مدينتي مشيعة إياها بحزن دفين، أشياء كثيرة تتوسلني أن أبقى، أن أمزق تذكرة السفر وأعدل عن قراري بالرحيل، تجذبني ذكريات الطفولة من ساعدي، فأرضى بكابوس الحياة على أرض الوطن بدل غربة يجتمع فيها اليأس بالأمل، وأبحث في دواخلي عن شيء من الحنين للماضي، فيصرخ فيَّ الأنا الأعلى معاتباً، يذكرني بقسوة العيش في كنف وطن تائه في مجرة التاريخ وبين دهاليز الحداثة والرجعية، حملت حقيبتي في صمت جنائزي وأنا أغالب دموعي المهددة بالانهمار، كنت ألقي نظرة أخيرة على مدينة كانت مسقط رأسي وكل ما أملك، فها هي الحياة تجردني من آخر ممتلكاتي مقابل شهادة جامعية وشيء من النجاح، والعائلة، والأصحاب، والذكريات!! هي أشياء تملكني ولا أملكها.

كثيراً ما تمنيت لو أنني لم أعش في كنف أحد، لو أنني عانقت حريتي منذ أن بدأت أفكاري تتشكل وتظهر للعيان، لو بوسعي أن أتملص من مسؤوليات الحياة لأكون حرة بدوام كامل، لكن الحياة تذكرنا من حين لآخر أننا ملك لها، وأنها لا تمشي على أهوائنا، وإنما نحن من ينبغي علينا أن نساير تقلباتها وتغيراتها وعواصفها المفاجئة التي غالباً ما تهز كياننا الهش هزّاً عنيفاً، وعندما نخرج من هاته العاصفة على قيد الحياة نكون قد تعلمنا كيف نستعد لما سيليها حتماً من عواصف. يصبح كل شيء مرتبطاً بمزاج القدر منذ لحظة الإدراك الأولى بأننا لسنا سوى قوارب تطفو على سطح الوجود، قد تؤلمنا هذه الحقيقة بعض الشيء، إلا أنها تدفع عنا الكثير من الأذى بالمقابل. ثم إن رفض الحقيقة لا يجعل الواقع يرتفع، وإنما يزيدنا شقاءً على شقائنا، نحسب أننا برفضنا لما فُرِضَ علينا مكرهون نكون قد اكتسبنا مناعة ضد مصائب الحياة، ونكون حينها على خطأ.

ما أنا إلا تلاحم بين روح متعبة وقوى خائرة، خلقت من طين وماء وأفكار مجردة تؤرقني، هذا العقل أيضاً هو كل ما أملك، ولكنه يمنعني من العيش، إذ يفرض عليّ أحاسيس أمقتها، ليقنعني بأنها حقائق لا ريب فيها، ويمطر عليّ تساؤلات تسلب مني حلاوة العيش. ما أنا إلا وجود عابر، طيف متمسك بالأزل يحاول صناعة المعنى من ترهات الحياة الرخيصة. أنتظر أفول الوجود، وأن يغلق الستار، وأتمنى ألا أعود. هذا الألم الدفين الذي ينهش روحي سيزول يوماً ما لا محالة، ويصبح في عداد الذكريات، وذخيرة من ذخائر الماضي البعيد، ولكن انتظار هذا اليوم الموعود يزيدني يقيناً في استحالة النسيان التام. أحاول أن أشغل نفسي بأشياء أخرى، أن انتشل روحي من عذابها، لكن كل هذا بلا جدوى.

فحينما عدت للوطن أخيراً، قررت أن أغتال غربتي، كنت أرقبها بجسد منهك وعينين ذابلتين وهي تسرق مني استقلاليتي، تجرد جسدي من روحي المليئة بالحياة، أو ربما يصح القول في هذا السياق روحي التي كانت مليئة بالحياة، أما الآن فلا البعد يحميني ولا القرب يشفيني، ليس بعد أن عشت بعيداً عن التفتيش اليومي للعقول المفكرة في وطني. 

كان التوق إلى الحرية ذلك الشيء الذي لا أعرف ما هو، كان الغصة في حلقي، والتفسير الوحيد لشعوري بالخوف والهلع. كنت أرغب في نيلها بأي ثمن حتى باتت تنزلق من يدي ببطء، وضعتها نصب عيني وقلت "أستعيدها" ولم أفعل. كيف يدافع العبد مسلوب القوى عن حريته؟ كيف يفتح بوابة سجنه ويطير صوب قدره؟ كل ما حولنا يجيب بأن الأمر مستحيل.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
آية العنزوق
كاتبة مغربية في مجال التاريخ والفلسفة
تحميل المزيد