بعد مرور 150 عاماً على إلغاء العبودية في هولندا، التي أنهت قرنين من الظلم والوحشية بحق آلاف الأفارقة والآسيويين، اعتذرت الحكومة الهولندية رسمياً عن "تورطها في العبودية" بعد الاعتراف بدورها في هذه الجريمة ضدّ الإنسانية.
وفي خطابٍ ألقاه بمدينة لاهاي، في ديسمبر/كانون الأول 2022، قدَّم رئيس الوزراء الهولندي مارك روته اعتذاراً رسمياً عن تورط بلاده السابق في العبودية، معرباً عن أسفه، لأن "الدولة الهولندية سمحت وشجعت واستفادت منها على مدى قرون"، لافتاً إلى أنه "تم تسليع الناس واستغلالهم والاتجار بهم باسم الدولة الهولندية".
ورغم أن هذا الاعتذار لم يلقَ ردود فعلٍ إيجابية من أحفاد المستعبدين، الذين طالبوا الحكومة الهولندية بإجراءاتٍ ملموسة، إلا أنه أعاد إلى الذاكرة الإنسانية تاريخ هولندا الأسود في تجارة العبيد.
وبخلاف فرنسا وبريطانيا، المعروفتين بماضي العبودية فيهما على نحو واسع، فإن تاريخ العبودية في هولندا وبلدان أوروبية أخرى -مثل بلجيكا والبرتغال- أقلّ انتشاراً لدى الجمهور العربي والعالمي. فيُغيّب أو يُنسى في كثير من الأحيان ماضيها الاستعماري.
كانت هولندا في السابق ثالث أكبر قوة استعمارية في العالم، وقد استعبدت نحو 600 ألف شخصٍ على مدار أكثر من 200 عام، معظمهم خُطف من غرب إفريقيا، وبيع وأُجبر على العمل في سورينام وأتلانتس وأمريكا الجنوبية والكاريبي. وقد أسهموا فيما يُعرف بـ"العصر الذهبي الهولندي"، الذي شهد فترة ازدهارٍ كبيرة على مدى القرنين السادس عشر والسابع عشر.
قصة دخول هولندا في تجارة العبيد
كانت هولندا من بين الإمبراطوريات الاستعمارية العظمى التي وجهت أنظارها نحو إفريقيا وشرق آسيا في القرن السادس عشر، لتنافس كلاً من البرتغال وإسبانيا للسيطرة على أكثر المناطق الاستراتيجية في العالم ذاك الوقت، وتحويلها إلى مستعمراتٍ تابعة لها.
لذا بدأت هولندا في أخذ حصتها من تجارة الرقيق العالمية، واستخدمت العبودية في مستعمراتها نهاية القرن السادس عشر، وأسّست شركات "الهند الغربية الهولندية" و"الهند الشرقية الهولندية" المرخصة، ومثّل نخاسوها أحد الموردين الرئيسيين للعبيد إلى الأمريكيتين والكاريبي وشرق آسيا.
بطبيعة الحال أدرك المستعمر الهولندي أن العبيد سلعةً مُربحة، لا سيما بعد أن كانت المزارع التي بناها الأوروبيون في "العالم الجديد" بحاجةٍ إلى العمالة. فقرر الهولنديون الاستعانة بالعمال الأفارقة مجاناً، وأصبحت أمستردام عبر مينائها تموّل تجارة العبيد بشكلٍ مباشر.
استفادت هولندا من تجارة العبيد بشكلٍ هائل؛ فكانت تبيع العبيد إلى المستعمرين الآخرين، الذين كانوا بحاجةٍ إلى اليد العاملة لزراعة المناطق المكتشفة على البحر الكاريبي، وملء خزائن بلادهم الأصلية عبر السكر والبن والتبغ والقطن.
وكانت استفادة هولندا من تجارة العبيد لا تتوقف هنا؛ فهي، وفوق بيعها العبيد، كانت تشترط على المستعمرين أن يُعيدوا السلع إليها، حيث يتم تكريرها وضخها في السوق الأوروبية.
وطبعاً، فإن ظروف نقل العبيد وعملهم وإقامتهم كانت مأساوية ولا إنسانية؛ ووفقاً لموقع "دتش ريفيو"، المتخصّص بالتاريخ والثقافة الهولندية، فإن العديد من العبيد الأفارقة تمّ نقلهم مثل "السردين المعبأ في السفن"، وقد تعرّضوا للضرب أو التجويع حتى الموت، فيما انتحر بعضهم، واغتُصب الكثير وقُتلوا، ثم ألقيَ بهم في البحر على يد الهولنديين.
هولندا عاشت عصرها الذهبي بسبب سورينام
جلبت تجارة العبيد الخيرات لهولندا، واستطاعت أن تتفوق على بريطانيا وفرنسا والبرتغال في هذا المجال. فقد استحوذ الهولنديون على تجارة الرقيق منذ السنوات الأولى على دخولها المجال، ثم استقرت حصتهم في القرن السابع عشر حين بلغت نحو 5٪.
وفي تلك الفترة، دخلت البلاد فيما يُعرف بـ"العصر الذهبي الهولندي"، الذي امتدّ طوال القرن السابع عشر، حين تفوقت التجارة الهولندية ومعها العلوم، والقوة العسكرية، والفن، وتمتع المواطنون بثروةٍ لا تقارن بفضل تجارة العبيد.
بالتزامن، أصبحت هولندا قوة بحرية تجارية لا تُضاهى، وقوة اقتصادية لا يستطيع العالم الاستغناء عنها، بعدما صارت أكثر الدول خبرةً في مجال تجارة العبيد وإحضارهم من مناطق بعيدة عبر البحار، وبسبب قدرتها على استغلالهم في زرع المحاصيل المختلفة وتوزيعها وبيعها في الأسواق العالمية أيضاً.
كل ذلك سمح لهولندا بالسيطرة على مستعمرة سورينام، شمال أمريكا الجنوبية، ذات البيئة الاستوائية التي كانت تحت سيطرة الإنجليز، فجعلتها مزارع للسكر، فضلاً عن سيطرتها على جزيرة كوراساو الكاريبية، وجنوب إفريقيا، وإندونيسيا.
وبعد استيلاء الشركات الهولندية على سورينام، عملوا على توسيعها، وتم منح رواد الأعمال في المزارع قطع أرض لزراعة قصب السكر بشكلٍ أساسي، إضافةً إلى البن والقطن والكاكاو والتوابل، لتصبح هولندا الدولة التجارية الأكثر نجاحاً على مدار الأعوام الـ200 التالية.
في كتابه "التباين السورينامي"، يقول أليكس فان ستيبريان، أستاذ تاريخ أمريكا الجنوبية في جامعة إيراسموس في روتردام وأمين المعهد الملكي المداري، إن تصدير المنتجات من المزارع بين الأعوام 1750 و1863 جلبَ لهولندا ما لا يقلّ عن 600 مليون من عملة الغيلدر الذهبي.
ووفقاً لستيبريان، فقد أدّى احتكار هولندا التجاري لسورينام إلى توفير الكثير من فرص العمل للهولنديين لإنتاج جميع المواد اللازمة لصناعة أكبر عدد من السفن التي تتولى نقل العبيد، فضلاً عن الإدارة اليومية للمزارع وبيع منتجاتها.
والأهم، أن التكلفة البشرية لهذه الهيمنة الهولندية على تجارة العبيد كانت منخفضة للغاية. فقط كان على الهولنديين اختطاف العبيد من منازلهم في أماكن مختلفة في إفريقيا، ثم نقل الناس إلى السفن، قبل بيعهم إلى المستعمرات المجاورة أو نقلهم إلى مزارعها للعمل.
كيف عامل الهولنديون العبيد؟
تاريخ العبودية في هولنديا قاتم، واعتذار الحكومة عن الويلات اللا إنسانية التي ارتُكبت على مدى قرنين وأكثر من الزمن لم يأتِ من فراغ.
وفقاً لموقع "العبودية في متاحف غلاسكو" البريطاني، فإن المستعمر الهولندي كان يختم على أجساد العبيد بالمكواة الساخنة مثل المواشي، ثم يجمع كل 200 عبد ويحبسهم في غرفةٍ واحدة على متن السفينة التي كانت تقلّهم إلى هولندا، والتي كانت تستغرق 3 أشهر أحياناً. وبالطبع لم يكن هناك مراحيض أو أي معيار للحياة الآدمية.
بعد وصول العبيد، قسمٌ منهم كان يُرسل إلى مزارع الهولنديين للعمل بالسُّخرة، وقسمٌ آخر كان يُعرض في سوق الميناء بأمستردام من أجل بيعه للأوروبيين مقابل المال أو السلع، قبل أن يتم تجميعهم مرة أخرى على متن سفنٍ ضيقة، ونقلهم إلى المزارع في أمريكا الجنوبية، وإجبارهم على العمل مرة أخرى في ظروفٍ شاقة للغاية.
الكثير من العبيد كانوا يموتون قبل وصولهم إلى هذه المستعمرات، والناجون منهم يعملون في معالجة المواد الخام، مثل قصب السكر والبن، التي يستفيد الهولنديون من بيعها في الأسواق العالمية.
عمل العبيد الأفارقة في المزارع لم يكن بدوره سهلاً على الإطلاق؛ فنحن نتحدث عن مناخٍ استوائي تنتشر فيه الأمراض المعدية، فضلاً عن عبء العمل لساعاتٍ طويلة وبظروف غير إنسانية.
وفي مرحلة التوسع الأولى للاستعمار الهولندي، كان لا بدّ من حرث واستصلاح سهول سورينام الساحلية المستنقعية، تم استخدام السوط للإسراع بحفر الخنادق في الطين الثقيل.
تعامل الهولنديون مع الإنسان الإفريقي على أنه عمالة يمكن الاستغناء عنها؛ ففي الحالات التي يكلّف فيها علاج المُصاب الكثير من المال، فكانوا إما يتخلون عنه ليموت، أو يطلقون النار عليه بعد أن يصطحبوه إلى الغابة واصطياده بهدف المتعة.
وخلال قرون تجارة العبيد في هولندا، لم يكن القانون يعتبرهم بشراً، بل ممتلكات منقولة لا تتمتع بأية حقوق، فضلاً عن أنهم لا يستطيعون الزواج قانوناً فيما بينهم، حتى عام 1828.
نهاية العبودية في هولندا
نقل الهولنديون أكثر من نصف مليون إفريقي عبر المحيط الأطلسي، للعمل في المزارع بين الأعوام 1596 و1829. وقد عوملوا على أنهم أشياء وممتلكات، كما تمّ محو أسمائهم، كجزءٍ من عملية "نزع الإنسانية"؛ كما تصفها ليندا نويتمير، رئيسة المعهد الوطني لتاريخ العبودية الهولندي.
حاول العبيد مراراً وتكراراً التمرد على وحشية الهولنديين بحقهم، إلا أنهم كانوا يلقون أسوأ أشكال العذاب، وأشهرها عندما كان النخاسون يعلقونهم من ضلوعهم باستخدام خطاف مربوط بسلسلة إلى خشبة. ورغم أن بعضهم نجح في الفرار إلى أدغال سورينام، منذ سنوات استعبادهم الأولى، وأُطلق عليهم اسم "المارون"، فقد نجح الهولنديون رغم ذلك في إلقاء القبض على البعض الآخر، وجرى عرضهم بشكلٍ مهين في معرضٍ بأمستردام خلال القرن الثامن عشر.