التعقيم الإجباري، ويُطلق عليه أيضاً اسم التعقيم القسري أو الإلزامي، هو برنامج حكومي اعتمدته بعض الدول كجزءٍ من التخطيط السكاني لتعقيم مجموعة معيّنة من النساء، بهدف إلغاء قدرتهنّ على الإنجاب ومنع التكاثر.
ووفقاً لقاموس موسبي الطبّي (Mosby)، يُعرّف التعقيم الإجباري على أنه "إزالة لا إرادية أو قسرية لقدرة الشخص على الإنجاب، غالباً من خلال إجراءٍ جراحي".
عادةً ما يُطبّق هذا الإجراء على الطبقة الفقيرة، وغالباً ما يتمّ تعقيم المرأة من دون علمها، أو منحها فرصةً للموافقة أو الرفض. وفي حال حصلت على تلك الفرصة، فيُستخدم معها محفزات مالية أو معلومات مضللة، وقد يصل الأمر إلى ممارسة أساليب تخويف، من أجل إجبارها على الخضوع لهذا الإجراء.
في 16 ديسمبر/كانون الأول 2022، وبعد 8 سنوات من الانتظار، أصدرت إحدى المحاكم في كينيا حُكماً بتجريم التعقيم الإجباري بسبب الإيدز، وقالت في حُكمها إنه يُعدّ انتهاكاً لحقوقهن وتمييزاً ضدّ المصابات بفيروس نقص المناعة البشرية HIV.
ودعت المحكمة وزارة الصحة الكينية للعمل على ضمان حصول النساء المُصابات بالإيدز على حقهن في الإنجاب، وذلك حسب ما ورد في موقع "شبكة القضايا القانونية والأخلاقية في كينيا".
ليس التعقيم الإجباري حديث الظهور ولا قديماً جداً، فقد طبّقت العديد من الدول برامج التعقيم منذ أوائل القرن العشرين. ولم تكن الأسباب مرتبطة دائماً بفيروس نقص المناعة، وإنما لأسباب سياسية وعنصرية أيضاً، ما شكل تاريخاً حافلاً بانتهاك حقوق النساء.
ورغم سنّ القوانين التي تجرّم تطبيق هذه البرامج في معظم دول العالم، فإن ممارسات التعقيم الإجباري لا تزال قائمة في بعض دول العالم حتى وقتنا الحالي.
التعقيم الإجباري بدأ في الولايات المتحدة
في إنجلترا، وبأواخر القرن التاسع عشر، دعا المثقفون -وخاصة فرانسيس غالتون، الخبير الإحصائي في العصر الفيكتوري- إلى مجموعة متنوعة من سياسات تحسين النسل، التي تهدف إلى ضمان صحة الجنس البشري.
تبنى أعضاء الحركة التقدمية في الولايات المتحدة أفكار تحسين النسل، عن طريق تقييد الهجرة والتعقيم القسري، كحلٍّ للأُسر الكبيرة. وكان الهدف النهائي لحركة تحسين النسل إنشاء مجتمعٍ بتركيبة وراثية "متفوّقة"، عن طريق تقليل عدد السكان غير "البيض" والمرضى عقلياً.
وفي عام 1907، سنَّت ولاية إنديانا قانون التعقيم الأول لتحسين النسل، وأيّدت المحكمة العليا الأمريكية مثل هذه القوانين في عام 1927، التي استهدفت بشكلٍ أساسي النساء المعوّقات، بحجة حماية الضعيفات من الحمل غير المرغوب به.
وقد طُبّقت سياسات التعقيم بشكلٍ عشوائي ولا إنساني لفتراتٍ طويلة، وبعضها كان سرياً وأُخفيَ عن الرأي العام لسنوات.
في عام 2020 مثلاً، نقلت صحيفة Berkeley Political Review ادّعاءات إحدى الممرضات عن الإهمال الطبي وسوء المعاملة، التي كانت تحصل في مركز احتجاز لإدارة الهجرة والجمارك (ICE) بولاية جورجيا الأمريكية، حيث كانت تعمل.
ادّعت الممرضة، التي كانت تعمل في مركز الاحتجاز، أنها شهدت العديد من عمليات استئصال الرحم غير الطوعي، التي أُجريت على النساء المهاجرات والمحتجزات من دون موافقتهن.
وتحت عنوان "تاريخ أمريكا المَنسي في التعقيم الإجباري"، فقد أشارت الصحيفة إلى أن المزاعم ضدّ شركة ICE ليست غير مسبوقة أبداً، بل إنها "أمريكية للغاية".
وكتبت: "للولايات المتحدة تاريخٌ طويل، فظيع، وغير معروف إلى حدٍّ كبير في علم تحسين النسل والتعقيم القسري، الموجَّه بشكلٍ أساسي نحو النساء الفقيرات والمعوّقات وصاحبات البشرة الملونة".
نشأت حركة تحسين النسل الأمريكية في أواخر القرن التاسع عشر وكانت قائمة على أساسٍ عنصرية وسياسي محلي. وفي الأصل تُشير كلمة "تحسين النسل" إلى التحسين البيولوجي للجينات البشرية.
ومنذ بداياتها، عملت سياسات تحديد النسل على تبرير الأعمال التمييزية والممارسات اللاإنسانية ضدّ الفئات المهمّشة وغير المرغوب فيها مجتمعياً، من خلال التعقيم الإجباري، إضافةً إلى قوانين الهجرة شديدة التقييد، وقوانين مكافحة اختلاط الأجناس.
وعلى مدار القرن العشرين، كانت برامج الولايات المتحدة لتحسين النسل قد أجرت عمليات التعقيم الإجباري على ما يقارب 70 ألف شخص، وفقاً للإذاعة الوطنية الأمريكية العامة (npr).
وبناءً عليها، طُبّق التعقيم على نساء السكان الأصليين رغماً عنهن؛ فوفقاً لتقريرٍ صادر عن المؤرخة جين لورانس عام 2000، اتهمت دائرة الصحة الهندية في الولايات المتحدة بتعقيم نحو 25% من نساء السكان الأصليين، خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
تفوق العرق الآري.. ليس في ألمانيا فقط، بل في السويد أيضاً
في إطار مشروعه النازي لتفوّق العرق الآري، آمن أدولف هتلر أن الألمان يجب أن يفعلوا كلّ ما بوسعهم لتحقيق هدفهم، بما في ذلك الإبادة الجماعية، بهدف التأكد من بقاء مجموعة الجينات الخاصة بهم نقية.
وكان التعقيم الإجباري أحد أبرز الوسائل، ولكن طُبّق بشكلٍ غير مسبوق. ففي عام 1933، أصدر النازيون قانوناً للوقاية من النسل المصاب بأمراضٍ وراثية، يسمح بتحديده وإيقاف تكاثره، ما أدى إلى آلاف عمليات التعقيم القسري، بل تخطاه إلى القتل.
ووفقاً لموقع History، فبحلول 1940 -العام التالي لبداية الحرب العالمية الثانية- اتخذ هوس هتلر منعطفاً رهيباً، حين قُتل مئات آلاف الألمان من ذوي الإعاقات العقلية أو الجسدية، بالغاز أو الحقن المميتة.
ويذكر موقع ToughtCo أنه بحلول عام 1945، كان النازيون قد عقّموا ما بين 300 إلى 450 ألف شخص، تحوّل بعضهم إلى ضحايا برنامج القتل الرحيم النازي، بعد فترةٍ وجيزة من تعقيمهم.
ليس بعيداً عن ألمانيا، وفي الفترة نفسها، كانت عمليات التعقيم الإجباري تُطبّق على قدمٍ وساق في الدول الإسكندنافية.
ففي سلسلة من التقارير المنشورة في صحيفة Dagens Nyheter السويدية، كشف الصحفي ماسيج زاريمبا أن السويد -إلى جانب النرويج والدنمارك- كانت رائدة في التطهير العنصري بعد الحرب العالمية الأولى، مُشيراً إلى أن عمليات التعقيم بدأت فيها عام 1935، وكانت تُطبّق على النساء الفقيرات أو المعوّقات، واللواتي وُصفن بأنهن ينتمين إلى فئاتٍ "أقلّ شأناً".
وعلى مدار 41 عاماً، استمرت الحكومات السويدية المتعاقبة في تنفيذ التعقيم الإجباري، وقد وصل عدد النساء المعقّمات إلى 60 ألف امرأة وفقاً لمجلة Nature، بدعوى "تخليص المجتمع السويدي من الأنواع العرقية الأقلّ شأناً، ولتشجيع الملامح الآرية".
ماريا نوردن، إحدى ضحايا التعقيم القسري في السويد، قالت، في حديثٍ لها مع صحيفة Independent البريطانية، إنه كان يُنظر إليها على أنها أقلّ شأناً "تعليمياً"، لعدم قدرتها على شراء نظارة عندما كانت طفلة، ما جعلها غير قادرة على رؤية اللوح المدرسي.
وبسبب ذلك أُرسلت ماريا إلى المستشفى وهي بنت 17 سنة ليقول لها أحد الأطباء، ويُدعى إنجفارسون، إنها "ليست ذكية، وإنه لا يمكنها إنجاب أطفال"، مقرراً إخضاعها إلى عملية تعقيم.
من الغرب إلى الشرق، ومعاناة الإيغور والروهينجيا
في دراسة صادرة عام 2020 عن حالة الإيغور الصينيين، كشف الباحث الصيني أدريان زينز أن بلاده تجبر نساء الإيغور على الخضوع إلى التعقيم من خلال تزويدهن بوسائل منع الحمل بإقليم شينجيانغ، في محاولةٍ واضحة للحدّ من تزايد أعداد الإيغور المسلمين.
واستند زينز في دراسته على البيانات الصينية الرسمية لإقليم شينجيانغ، حيث يوجد معظم الإيغور، إلى جانب مقابلات عدة أجراها مع النساء في الإقليم وخارجه.
وتذكر الدراسة أن نساء الإيغور والأقليات العرقية الأخرى في الصين يتعرّضن للتهديد بالاعتقال في معسكرات الفصل العنصري، في حال رفضن الإجهاض إذا ما كنّ في حملهن الرابع.
وفيما يُعرف بـ"حصص الولادة المقررة"، فإن الحكومة الصينية تطبق قانوناً محلياً يجرّم إنجاب أكثر من 3 أطفال لمسلمي الإيغور. وفي انتهاكٍ صارخ لحقوق الإنسان وللقانون أيضاً، فهناك نساء لم يتجاوزن حصص الولادة المقررة، ولكن السلطات أجبرتهن على عدم الإنجاب.
بسبب ذلك، انخفض النمو السكاني في إقليم شينجيانغ بشكلٍ حاد في السنوات الأخيرة بنسبة 84% في أكبر محافظتين بإقليم الإيغور بين عامي 2015 و2018، كما ذكر موقع BBC نقلاً عن زينز.
فيما كشفت "قائمة كاراكاكس"، وهي وثيقة حكومية صينية مسرّبة توضح بالتفصيل أسباب اعتقال مئات الأشخاص من الإيغور، أن تجاوز حصص الولادة المقررة كانت السبب الأكثر شيوعاً للاعتقال، ناهيك عن العنف الجنسي المرتكب في حق النساء والتعديات المستمرة عليهن، التي كشفتها تلك التسريبات.
"الصين تعذِّب المسلمين الإيغور وتُخضعهم للاحتجاز والعلاج الطبي القسري، وهناك أدلة ذات مصداقية على انتهاكات جنسية"؛ هذا ما خلص إليه تقريرٌ للمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان (OHCHR)، حول جرائم الصين بحق الإيغور، صدر رغم ضغوطٍ صينية حادة لمنعه.
التقرير الذي نُشر في أغسطس/آب 2022، وأغضب الصين بشدة، أشار إلى "ادعاءات ذات مصداقية بشأن تعذيب واحتجاز لأعداد كبيرة من الإيغور، وكذلك ادعاءات أخرى متعلقة بجرائم فردية للعنف الجنسي والجنساني"؛ كاشفاً أن هذه الانتهاكات تشمل -إلى جانب الإيغور- المجتمعات المسلمة الأخرى، مثل: الكازاخ، والقرغيز، والأوزبك، التي تعيش في إقليم شينجيانغ المتمتع نظرياً بالحكم الذاتي.
التقرير صدر بتكليف من ميشيل باشليت، رئيسة المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة (والتي كانت رئيسة تشيلي السابقة)، ونُشر في اليوم الأخير من فترة ولايتها التي دامت 4 سنوات.
وفي أزمةٍ شبيهة بمعاناة مسلمي الإيغور، يعاني مسلمو الروهينغا أيضاً -الذين لجأوا إلى بنغلاديش هرباً من سلطات ميانمار- من حملةٍ ممنهجة للتعقيم الإجباري بهدف تحديد النسل وعدم زيادة أعدادهم، التي تجاوزت 600 ألف لاجئ.
وفي هذا السياق تدرس الحكومة البنغلاديشية إمكانية تعقيم الرجال والنساء على حدٍّ سواء، عبر إجراء عملياتٍ جراحية لمنعهم من الإنجاب. فيما تعمل السلطات على نشر حملة في مخيمات الروهينغا لنشر ثقافة تحديد النسل، عبر توفير وسائل منع الحمل للرجال والنساء، حسب ما جاء في صحيفة The Guardian.
ولتحفيز الروهينغا على ثقافة تحديد النسل، تقدم السلطات في بنغلاديش 2300 تاكا -ما يعادل 28 دولاراً- وملابس لونجي تقليدية لكلّ رجلٍ يوافق على الخضوع لهذا الإجراء. فيما يخضع 250 شخصاً كل شهر للتعقيم في مدينة كوكس بازار الحدودية، الأمر الذي لا يزال يواجه رفضاً واسع النطاق بين الروهينغا.
وإذا كنتم تظنون أن التعقيم الإجباري أُلغي تماماً في الولايات المتحدة، فأنتم مخطئون، لأنه يُطبّق على شكل رشوة. ومقابل تخفيف العقوبة في القانون الجنائي الأمريكي، توافق بعض النساء على الخضوع إلى التعقيم. ففي عام 2017، عرض قاضٍ في ولاية تينيسي تخفيض عقوبات السجن على الأشخاص المدانين الذين مثلوا أمامه في المحكمة، في حال تطوعوا للخضوع إلى التعقيم. وفي عام 2018، حُكم على امرأة من أوكلاهوما -أُدينت بصرف شيك مزور- بعقوبة مخففة بعد أن خضعت للتعقيم بناءً على اقتراح القاضي.