غنّوا ورقصوا ولعبوا كرة القدم.. “هدنة عيد الميلاد”، حين توقف القتال في الحرب العالمية الأولى

عربي بوست
تم النشر: 2022/12/29 الساعة 12:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/12/29 الساعة 12:07 بتوقيت غرينتش
لم يعرف العالم بـ"هدنة عيد الميلاد" إلا بعد أسبوع/ Wikimedia Commons

هل سمعتم يوماً بمصطلح "هدنة عيد الميلاد"؟ حسناً، فهو يُستخدم للإشارة إلى تلك الليلة المجنونة من العام 1914 في الحرب العالمية الأولى، حين توقف القتال وترك الجنود المتحاربون أسلحتهم وعداوتهم جانباً، ليحتفلوا معاً بعيد الميلاد المجيد.

لسنا نبالغ لو قلنا إن الحرب العالمية الأولى تُعتبر واحدةً من أسوأ الحروب التي خاضتها البشرية في تاريخها؛ فقد توفي خلالها ملايين الجنود والمدنيين، في صراعٍ غيّر طريقة خوض الحروب فيما بعد، وهيّأ المسرح لما تبقى من أحداثٍ وتقسيماتٍ سياسية في القرن الـ20. 

لكن ما قد لا يعرفه كثيرون أن الأطراف المتحاربة وقتئذٍ -أي جيوش فرنسا وبريطانيا من ناحية، وألمانيا من ناحية أخرى- أعلنت وقف القتال بشكلٍ غير رسمي، من أجل الاحتفال بمناسبة عيد الميلاد، واجتمعت الأطراف المتنازعة واحتفلوا معاً!

ماذا حدث عشية هدنة عيد الميلاد؟ 

كان من المفترض أن تنتهي الحرب العظمى بحلول وقت عيد الميلاد عام 1914، لكن الأمور وصلت إلى طريقٍ مسدود بعد خمسة أشهر من بدء الحرب. فقد أدّت الخسائر غير المسبوقة في معارك مثل: "تاننبرغ"، و"مارن"، و"إيبرس" إلى إجبار الأطراف المتحاربة على دخول حرب خنادق بشعة ومستنزفة في جميع أنحاء أوروبا.

لكن، وخلال هدنة عيد الميلاد، وأثناء التمركز داخل خنادقهم، قرر الجنود من الجانبين الاحتفال بالعطلة على أكمل وجه. وسرعان ما بدأ المقاتلون على طول الجبهة القتالية يخرجون من خنادقهم بلا أسلحة، باتجاه ما كان يُعرف بـ"الأرض المحرمة" (No Man's Land).

وفيها التقى الجنود الأعداء، وتجلّت من بعدها حلقة مذهلة من حلقات الإنسانية، حين شهدت أرض المعركة تحوُّل الأعداء إلى أصدقاء، يتبادلون الحديث والغناء والرقص ويأكلون معاً، بعد أن كانوا يتقاتلون فيما بينهم قبلها بساعاتٍ قليلة.

شارك نحو 100 ألف جندي بريطاني وألماني، وبعض الفرنسيين، في عمليات وقف العداء غير الرسمية على طول الجبهة الغربية، فيما سُمّي بـ"هدنة عيد الميلاد". 

وضع الألمان الشموع على خنادقهم وعلى أشجار عيد الميلاد، ثم واصلوا الاحتفال بغناء ترانيم عيد الميلاد. ردّ البريطانيون بترانيمهم الخاصة، وواصل الجانبان ترداد تحيات عيد الميلاد لبعضهما. 

بعدها بفترة وجيزة، تجرأ بعضهم وذهب إلى المنطقة المحرمة، حيث تمّ تبادل الهدايا الصغيرة، والتي كانت عبارة عن طعام وتبغ وكحول وهدايا تذكارية، مثل الأزرار والقبعات.

سكتت المدفعية في المنطقة تلك الليلة، وسمحت الهدنة بإعادة الجنود المقتولين إلى ما وراء خطوطهم. وفي العديد من القطاعات، استمرت هدنة الميلاد منذ ما قبل العيد بأسبوعٍ وحتى ليلة العيد، في حين استمرت في مناطق أخرى حتى يوم رأس السنة. 

رسم تصويري لاحتفالات الجنود في هدنة عيد الميلاد/ Wikimedia Commons
رسم تصويري لاحتفالات الجنود في هدنة عيد الميلاد/ Wikimedia Commons

رسائل الجنود عن هدنة عيد الميلاد

رسائل مختلفة كتبها الجنود عن هدنة عيد الميلاد، ونشرتها الصحف كما بثتها الإذاعات العالمية لاحقاً. فقد كتب العميد والتر كونغريف، قائد لواء المشاة الثامن عشر، خطاباً يذكر فيه الألمان بإعلان هدنة هذا اليوم. 

كونغريف، الذي كان متمركزاً بالقرب من نيوف شابيل-شمال فرنسا، ذكر في خطابه كيف أن أحد رجاله رفع رأسه بشجاعة فوق الحاجز، وسار آخرون من كلا الجانبين إلى المنطقة المحرمة. "تصافح الضباط والرجال وتبادلوا السجائر والسيجار والمأكولات".

وقد اعترف بأنه كان متردداً بشأن الالتحاق بالهدنة في البداية، خوفاً من القناصة الألمان.

بدوره، كتب أحد الجنود البريطانيين قائلاً: "في يوم عيد الميلاد، وُضعت طاولة في المنتصف بين الخندقين، وأمضى الجميع وقتاً سعيداً. تبادلوا الهدايا، وقدّموا التذكارات الصغيرة لبعضهم البعض".

جندي بريطاني آخر كتب في خطابٍ إلى ذويه: "عشتُ عيد ميلادٍ استثنائياً للغاية، وأعتقد أنني لم أكن سأمضي مثله بعيداً عن الخنادق على الإطلاق". وعن هدنة عيد الميلاد، أوضح الجندي أن "الأرض الفاصلة بين الخندقين المتحاربين امتلأت بالألمان وجنود كتيبة الهايلاندرز، في غضون خمس دقائق، وبدأوا في تبادل السيجار والعديد من الرفاهيات الصغيرة الأخرى".

كما أُقيمت مباريات لكرة القدم في الأرض المحرمة ببعض المناطق، سواء بين الأطراف المتحاربة أو بمشاركة فرق مختلطة. وعن تلك المباراة، كتب ضابط من الفيلق الطبي بالجيش الملكي البريطاني في خطابٍ إلى صديقه بلندن: "خاض فوجنا مباراة كرة قدم ضد الألمان، وخسروها بثلاثة أهدافٍ مقابل هدفين".

وما يميّز هدنة عيد الميلاد، إلى جانب كلّ ما ذُكر سابقاً، أن الجنود من الجانبين دفنوا موتاهم، وأقاموا قداديس عيد الميلاد، وكأنهم في كنيسة.

ولا شك أن أفضل وصفٍ لتلخيص الهدنة جاء على لسان جندي بريطاني، في خطابٍ أرسله إلى Carlisle Journal، ونُشِرَ في الخامس من يناير/كانون الثاني عام 1915. 

وكتب الجندي: "توقفت كل كلمات الكراهية وكل الرصاصات المتبادلة التي اشتعلت منذ بدء الحرب، وهدأت بفضل سحر عيد الميلاد. ولا شك أن الأمل كبير في السلام المستقبلي، رغم أننا أمام اثنتين من الدول العظمى التي يكره أحدها الآخر، وتتعهدان بالانتقام الأبديي، وتبثان سمومهما حتى في الموسيقى. لكن جنود البلدين تركوا السلاح في هدنة عيد الميلاد لتبادل السجائر وأمنيات العيد السعيد".

بينما قالت لورا فوخت، أمينة التعليم في "المتحف الوطني والنصب التذكاري للحرب العالمية الأولى"، لموقع Business Insider الأمريكي: "يُعبّر ذلك الموقف عن الإنسانية المشتركة التي ظلت قائمة حتى في خضم الحرب، كما يُعبّر عن أفضل ما فينا من خصال".

اجتماع القوات البريطانية والألمانية في المنطقة المحرمة خلال الهدنة/ Wikimedia Commons 
اجتماع القوات البريطانية والألمانية في المنطقة المحرمة خلال الهدنة/ Wikimedia Commons 

رفض القيادات لهدنة عيد الميلاد

لم توافق القيادات العليا من الجانبين على تصرفات الجنود داخل المناطق التي شهدت إعلان الهدنات. وبالفعل، فقد تعرضت بعض الوحدات للعقاب أو النقل إلى مناطق أخرى على الجبهة، في حين لم تشهد الحرب العالمية الأولى عقد أي هدنات أخرى -حتى نهايتها- بعد ذلك.

يُقال إنه لم يتم الإبلاغ عن هدنة عيد الميلاد، التي حصلت على مختلف الجبهات، لمدة أسبوع. وكان السبب حظر غير رسمي على الصحافة، خرقته صحيفة نيويورك تايمز، في 31 ديسمبر/كانون الأول، ونشرت عن الهدنة.

وسرعان ما تبعتها الصحف البريطانية، وطُبعت العديد من الروايات المباشرة من الجنود في الميدان، والمأخوذة من رسائلهم إلى عائلاتهم، ومقالات افتتاحية عن "واحدة من أعظم المفاجآت في حرب مفاجئة". 

بحلول 8 يناير/كانون الثاني 1915، كانت صور الجنود وهم يغنون ويرقصون ويحتفلون قد وصلت إلى الصحافة والقنوات البريطانية والفرنسية، وحتى الألمانية؛ رغم أن التغطية في ألمانيا كانت أكثر صمتاً، وانتقدت بعض الصحف أولئك الذين شاركوا في الهدنة.

في فرنسا، ضمنت الرقابة على الصحافة أن ما يُنشر عن الهدنة يجب أن يكون مصدره جنود في الخط الأمامي، أو روايات مباشرة رواها بعض الجرحى في المستشفيات، قبل أن تُجبر الصحافة في النهاية على إعادة طبع بلاغ الحكومة بأن التآخي مع العدو يشكل خيانة.

وبعد مضي قرنٍ كامل على اندلاع الحرب، لا يزال جنود ألمانيا وبريطانيا يجتمعون اليوم للعب كرة القدم والاحتفال بعيد الميلاد. وقد جرت إعادة تمثيل الأحداث التاريخية لتلك الواقعة في عدة مواقع على طول أوروبا، مثل إنجلترا وبلجيكا. 

في العام 2015، أُنتج فيلم سينمائي عن هدنة عيد الميلاد حمَلَ العنوان نفسه Christmas Truce، يروي قصة حبٍّ نشأت بين جندي أمريكي وامرأة بلجيكية خلال فترة الهدنة. وعند استئناف القتال، يتواعدان على أن يجتمعا مجدداً في أول عيد ميلادٍ بعد انتهاء الحرب، في حال بقيا على قيد الحياة.

وقد أُنتجت وثائقيات عدة عن هدنة عيد الميلاد، كان آخرها في العام 2020، بعنوان Silent Night: The Story Of The Christmas Truce، وهو مُتاح مجاناً عبر يوتيوب من إنتاج Timeline. 

تحميل المزيد