تحتفظ كتب التاريخ الإسلامي بقصص المئات من النساء المسلمات اللاتي حفرن أسمائهن بحروفٍ من الذهب، فقد برزت العديد منهنّ كقائدات في المجالات السياسية؛ أو نابغاتٍ في الشعر والأدب والعلوم، ومن هؤلاء الملكة ضيفة خاتون، ابنة الملك العادل، وزوجة الملك الظاهر غازي، ووالدة الملك العزيز محمد، وجدّة الملك الناصر يوسف.
ضيفة خاتون في ضيافة عائلة الملوك
ضيفة خاتون بنت الملك العادل بن نجم الدين أيوب، شقيق صلاح الدين الأيوبي، وُلدت سنة 1185م، في قلعة حلب حين كانت تلك القلعة مقراً لحكم والدها العادل، أمّا عن تسميتها، فقد جاء في تاريخ ابن العديم، أنّ ضيفاً كان عند والدها وقت ولادتها فأسماها لذلك ضيفة، في حين ورد اسمها صفية خاتون في بعض المصادر التاريخية الأخرى، بينما أسماها الخنداري ضيفة الله.
كانت ضيفة خاتون ضمن مجموعة من الأخوة والأخوات، برز جلّهم في ساحة الأحداث السياسية من خلال تسميتهم ملوكاً وأمراءً للممالك الأيوبية، أشهرهم الملك الكامل محمد، والحافظ أرسلان، والمعظّم عيسى، والأشرف موسى، فضلاً عن إخوة آخرين، أمّا أخواتها فأشهرهن كانت غازية خاتون وملكة خاتون.
ضيفة خاتون تتزوج من ملك حلب الظاهر غازي
في سنة 1213م، تزوّجت ضيفة خاتون من ابن عمها الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي، حاكم حلب، وذلك بعد وفاة زوجته الأولى غازية خاتون، شقيقة ضيفة خاتون.
لم تكن علاقة الظاهر غازي مع عمه العادل على ما يرام، وذلك بسبب حملة الملك العادل العسكرية على الجزيرة العربية، فأراد الظاهر غازي الزواج من ابنته الأخرى، ضيفة خاتون لمصالحته، وكلّف القاضي بهاء الدين بن شداد لطلب ضيفة خاتون من أبيها.
كان مهر ضيفة خاتون يقدّر بنحو 50 ألف دينار ذهبي، كما انتقلت إلى حلب في موكب حافل غير مسبوق.
وصف ابن واصل في كتابه "مفرج الكروب"، موكب زفاف ضيفة خاتون من الظاهر غازي بالقول، "وسرحت الخاتون في هذا الشهر -محرم 1213م- إلى حلب فوصلت إليها في تجمّلٍ عظيم، والتقاها الملك الظاهر في أمراء حلب ومعمميها وكبرائها، وكان دخولها القلعة يوماً مشهوداً، وقدم معها من القماش والآلات وأنواع المصانع ما يحمله خمسون بغلاً و300 بعير، ومن الجواري والإماء والحرائر والكجوات ما يحملهن مئة بعير، وذكر أنه كان في خدمتها مئة جارية كلهن مطربات ومئة جارية أخرى يعملن أنواع الصنائع البديعة".
أسفر زواج ضيفة خاتون مع الملك الظاهر غازي عن ولادة العزيز محمد سنة 1213م، فتزينت حلب ابتهاجاً به.
بعد مرور 3 سنواتٍ من زواجها من الملك الظاهر، وبالضبط سنة 1216م، اعتلّ الظاهر غازي على أثر إصابته بالإسهال، الذي كان سبباً في وفاته عن عمر ناهز 44 سنة.
لم يكن لها دورٌ في فترة حكم ابنها الملك العزيز محمد
كانت وصية الملك الظاهر غازي أن يعتلي الحكم من بعده، ابنه العزيز ذو الثلاث سنوات فقط، بالرغم من وجود ابنٍ آخر أكبر منه سناً من زوجة أخرى يدعى الصالح أحمد.
كما عهد الظاهر غازي للأمير شهاب الدين الطواشي أن يتولى عرش ابنه حتى يكبر، وبالفعل سيّر الطواشي أمور مملكة حلب حتى سنة 1231م، السنة التي تولى فيها العزيز محمد شؤون الحكم في حلب.
وحكم العزيز محمد حتى سنة وفاته عام 1236م، وهو يبلغ من العمر 24 عاماً فقط، وذلك بعد أن أصابته حمى باردة ألزمته الفراش حتى يوم وفاته.
خلال تلك السنوات الممتدة من وفاة زوجها الظاهر غازي ووفاة ولدها العزيز محمد، لم يكن لضيفة خاتون أي دورٍ سياسي واضح، سواءً في وصاية الطواشي على ولدها أو حتى في الفترة التي تقلّد فيها ابنها العزيز الحكم.
وصاية ضيفة خاتون على حفيدها الناصر يوسف
في سنة 1229م، وُلد لملك حلب محمد العزيز طفلٌ من إحدى جواريه، أطلق عليه اسم "الناصر يوسف".
كان للناصر يوسف أخ من أمّه يُدعى الظاهر، بينما لم يكن للملك محمد العزيز أبناءٌ من الذكور من زوجته فاطمة بنت الملك الكامل.
أحدثت وفاة الملك العزيز محمد سنة 1236م، فراغاً في السلطة، حيث إنَّ ولده ووليَّ عهده الناصر يوسف، كان في الثامنة من عمره حين توفي والده العزيز محمد.
في تلك الأثناء، تصدّت ضيفة خاتون لمهمة الوصاية على حفيدها يوسف الناصر، وأصبحت الحاكمة الفعلية لحلب.
ساعد كلٌّ من الأمير إقبال الشرابي، خادم ضيفة خاتون، والوزير جمال الدين القفطي ضيفة على أمور الحكم، مما جعل فترة حكمها الأكثر استقراراً وازدهاراً على حلب.
ويصفها المؤرخ شمس الدين الذهبي، بأنها "كانت ملكة جليلة عاقلة"، ويضيف أنَّها بعد وفاة ولدها الملك العزيز، تصرفت تصرف السلاطين، ونهضت بالمُلك أتم النهوض".
ويشير الصفدي إلى سياستها في حلب، فيقول في كتابه "الوافي بالوفيات"، إنها" أزالت المظالم والمكوس في جميع بلاد حلب، وكانت تؤثر الفقراء وتحمل إليهم الصدقات الكثيرة".
ووصف النويري دورها في الحفاظ على مملكة حلب في كتابه "نهاية الإرب"، بقوله: "وكانت هي التي دبّرت الدولة و حُفِظَ الملك بسببها على ابنها وابنهِ من بعد وفاة الملك الظاهر".
وأشار ابن الوردي في تاريخه، إلى دورها في إدارة مملكة حلب بقوله: "والمرجع إلى أم العزيز ضيفة خاتون بنت العادل".
أمّا القلقشندي، فقال عنها في"مآثر الأنافة"، أنّها "كانت من المرجوع إليها في أمور المملكة".
وإضافة إلى ذلك، فقد كانت ضيفة خاتون تؤثر الفقراء والزهاد والعلماء وأهل الدين ووصفت بالملكة الرحيمة، واشتهرت بحسن السياسة والقيادة وتصدّت لمحاولات كل من المغول والصليبيين وسلاطين السلاجقة على حدّ سواء للسيطرة على مملكة حلب.
لم يكن تأثير ضيفة خاتون في حلب مقتصراً على الجانب السياسي والاقتصادي، بل كان لها دَورٌ بارز في إثراء الحركة العلمية في حلب، حيث اهتمّت بالعلم والعلماء، وقرّبت إليها أهل العلم والدين وبذلت لهم الكثير.
فضلاً عن أنها أنشأت مدرستين كبيرتين، الأولى اختصت بالعلوم الدينية الشرعية على المذهب الشافعي، وسميت بمدرسة الفردوس، والتي تعتبر من أكبر مدارس حلب.
والثانية، كانت مدرسة للعلوم الشرعية والعلوم الدنيوية المختلفة، وكانت تسمى الخانقاه، وسميت أيضاً بخانقاه الفرافرة.
نجحت في الحفاظ على ملك حفيدها وحزنت حلب لوفاتها
حسب كتاب "ملكات البلاط الأيوبي ضيفة خاتون وشجر الدر خاتون"، للدكتور سلام علي مزعل الجابري، كان الهاجس الأكبر للملكة ضيفة خاتون، هو أخوها الأكبر الملك الكامل، الذي كان يحكم مصر، والتي كانت تخشى أن يطمع في حكم حفيدها الناصر يوسف، فبادرت إلى قطع العلاقات معه، وذلك لرفض الأخير وصايتها على حكم حلب، وإصراره على ضم مملكة حلب إلى سلطانه.
وفي سبيل الدفاع عن مملكة حلب من أطماع الملك الكامل، قامت ضيفة خاتون بتشكيل حلفٍ مع دمشق وحمص وحماه لمواجهة الكامل.
تفكك هذا الحلف سنة 1237م، بسبب وفاة أخيها الملك الأشرف حاكم دمشق، الأمر الذي دفع بالملك الكامل إلى الزحف بجيشه إلى دمشق والسيطرة عليها.
غير أنّ الملك الكامل توفي في نفس العام بعد أن كان يهمّ بالهجوم على مدينة حلب.
اغتنمت ضيفة خاتون فرصة وفاة الملك الكامل، فقامت بضم كل من مدينة حماة ومَعَرَّة النعمان إلى مملكتها في حلب.
وفي نفس الأثناء، جلس ابن أخيها، الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل على كرسي العرش في مصر، وأرسل إلى ضيفة خاتون رسالة يقول فيها: "البلاد كلها بحكمك، وإن شئتِ إرسال نائب يتسلم هذه البلاد وغيرها فأرسليه لأسلم إليه ما تأمرين بتسليمه".
لمدة 6 سنوات، فترة حكمها لمملكة حلب، ظلت ضيفة خاتون الآمر الناهي في حلب، حتى توفيت عام 1242م وخلفها حفيدها الناصر يوسف.
ويروي الصفدي أنَّ أهل حلب حزنوا أشد الحزن لوفاتها؛ حيث "أُغْلِقَتْ لموتها أبواب حلب 3 أيام".