يُعدّ ابن رشد من أكثر الشخصيات الإسلامية المثيرة للجدل في عصره، وحتى وقتنا الحالي؛ فقد رآه البعض مُرتداً عن دينه وكافراً بسبب أفكاره الفلسفية، فيما اعتبره البعض الآخر مفكراً كبيراً وعالماً فقيهاً له نظرته الخاصة إلى الحياة والدين.
لكن الأكيد أن أثر ابن رشد بدا واضحاً على فلاسفة أوروبا في القرون الوسطى، وساهم بشكلٍ أو بآخر في النهضة الأوروبية الحديثة، كما واجه السلطة التقليدية من خلال سعيه إلى درء التعارض بين الفلسفة والشرع.
اسمه الكامل أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي، وقد وُلد في مدينة قرطبة بالأندلس (إسبانيا حالياً) في العام 520 هجرية، الموافق لـ1126 ميلادي. واشتهر باسم "ابن رشد الحفيد"، لتمييزه عن جده ابن رشد أبو الوليد محمد.
كان جدّه شيخ المالكية، وقاضي الجماعة، وإمام جامع قرطبة، ومن كبار مستشاري أمراء دولة المرابطين التي حكمت المغرب الأقصى والأندلس من عام 1056 إلى 1147. وبحسب ما ذكر المؤرخ شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، فإنّ الحفيد وُلد قبل موت جدّه بشهرٍ واحد.
نشأ وسط أسرة متديّنة ودرس الفلسفة والعلوم
نشأ ابن رشد وسط أسرةٍ متديّنة؛ ووفقاً لموسوعة "عريق" -وإضافةً إلى مركز جدّه- فإنّ والده أبو القاسم أحمد بن أبي الوليد كان فقيهاً ويُدرّس في مجلسه الخاص بجامع قرطبة.
تولى القضاء في قرطبة عام 532 هـجري، قبل أن يترك هذه المهنة ويتفرغ لتدريس وتأليف الفقه وتفسير القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، إلى أن توفي سنة 563 عندما كان ابنه في أوج نشاطه الفلسفي.
درس ابن رشد الفقه على يد الفقيه الحافظ أبي محمد بن رزق، واستظهر كتاب "الموطأ" حفظاً للإمام مالك على يد أبيه الفقيه أبي القاسم، كما تتلمذ أيضاً على أيدي فقهاء آخرين على غرار: أبي مروان عبد الملك بن مسرة، وابن بشكوال، وأبي بكر بن سمحون، وأبي جعفر بن عبد العزيز، الذي أجاز له أن يفتي في الفقه.
في مجال الفلسفة تأثر ابن رشد في شبابه بالفيلسوف المسلم ابن باجة، الذي كان أحد وزراء وقضاة دولة المرابطين. كما كان صديقاً للفيلسوف المسلم الآخر ابن طفيل، الذي كان أحد وزراء دولة الموحدين التي تأسّست في العام 1121 بالمغرب الأقصى.
توسعت دولة الموحدين لتشمل كل المغرب العربي الكبير والأندلس، كما أنها أطاحت بدولة المرابطين، واتخذت من مراكش عاصمة لها حتى سقوطها في العام 1269 على يد بني مرين.
لم يكتفِ ابن رشد بدراسة الفقه والشريعة والفلسفة، بل وسّع معارفه في العلوم الطبية وعلم الفلك. وقد كتب ابن الذهبي، نقلاً عن المؤرخ الأندلسي ابن الأَبَّار: "لم ينشأ بالأندلس مثل ابن رشد كمالاً وعلماً وفضلاً. ويُقال إنّه ما ترك الاشتغال مُذْ عَقَلَ سِوَى ليلتين، ليلة موت أبيه وليلة عرسه، وَإِنَّه سوّد في ما أَلّف وَقيّد نحواً من عشرة آلاف ورقة، وَمال إلى علوم الحكماء، فكانت له فيها الإِمامة. وكان يُفزَع إلى فُتْيَاهُ في الطّب، كما يُفزَع إلى فُتيَاهُ في الفقه".
كان مقرباً من أمير الموحدين ثم أحرق كتبه ونفاه
في المجال المهني تولى ابن رشد القضاء سنة 1169 بمدينة إشبيلية ثم في قرطبة. وحين استقال ابن طفيل من طبابة خليفة دولة الموحدين، أبو يعقوب يوسف، اقترح اسم صديقه ابن رشد ليخلفه في منصبه.
فاستدعاه الخليفة إلى مراكش في العام 578 هجري، وجعله طبيبه الخاص، وقرّبه منه، ثم ولاه منصب قاضي الجماعة في قرطبة ثم في إشبيلية.
ولما توفي أبو يعقوب يوسف وخلفه ابنه المنصور الموحدي، زادت مكانة ابن رشد في عهده، قبل أن ينقلب عليه الموحدي بحجة "أنّ أفكاره الفلسفية منافية لدين الإسلام".
فأمر الأمير بنفيه مع تلامذته إلى قرية "اليسانة" في ضواحي قرطبة، التي كان أغلب سكانها من اليهود، كما أحرق كتبه، وأصدر منشوراً إلى كل المسلمين ينهيهم عن قراءة كتب الفلسفة، أو التفكير في الاهتمام بها، وهَدَّد من يُخالف أمره بالعقوبة.
بقي ابن رشد في قرية "اليسانة" طيلة سنتين؛ وبعد تأكد الخليفة من بطلان التهمة التي وُجّهت إليه، عفا عنه واستدعاه من جديد إلى مراكش وأكرم مثواه، كأحد كبار رجال الدولة.
ولكن الفيلسوف المسلم لم يهنأ بذلك العفو كثيراً. فقد أصيب بمرضٍ عانى منه لسنة واحدة، مكث خلالها في مراكش حيث توفي في العام 1198، ودُفن فيها، قبل أن تُنقل رفاته في وقتٍ لاحق إلى مسقط رأسه قرطبة.
لم يُذكر في المراجع التاريخية أي شيء يتعلق بالحياة الشخصية لابن رشد، سوى أنّ له ابناً طبيباً، واسمه أبو محمد عبد الله.
نظرية ابن رشد الخاصة عن علاقة الدين بالفلسفة
اشتهر ابن رشد كمفكرٍ كبير في الفلسفة، وقد رأى أنّ لا تعارض بين دين الإسلام والفلسفة، ولكن هناك بالتأكيد طرقاً أخرى يمكن من خلالها الوصول إلى الحقيقة المنشودة نفسها.
وفي كتابه "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال"، قدّم ابن رشد نظرية خاصة في مسألة العلاقة بين الشريعة والحكمة، أي بين الدين والفلسفة؛ ورأى أن "الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه".
أوضح في كتابه أنّ لا تعارض بين الدين والفلسفة (الشريعة والحكمة). وإذا كان هناك من تعارضٍ، فهو ظاهري بين نصّ ديني وقضية عقلية، ونستطيع حلّه بالتأويل وفقاً لقواعد وأساليب اللغة العربية.
اختصّ ابن رشد في ترجمة كتب الفيلسوف الإغريقي المعروف أرسطو، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، وتقديم شروحات معمّقة عنها؛ لدرجة أن الكثيرين ينظرون إليه كتلميذٍ لأرسطو، رغم الفارق الزمني الكبير في العصرين اللذين عاش فيهما الرجلان، ورغم اختلاف ديانتهما.
ترجماته وتفسيراته لآراء أرسطو ألهمت الأوروبيين
أسهمت كتب ابن رشد في الفلسفة، وترجمته وتفسيراته لآراء أرسطو وأفلاطون (أستاذ أرسطو) في إلهام المفكرين الأوروبيين خلال العصور الوسطى، وبالتالي المساهمة في النهضة الأوروبية الحديثة.
أشاد المؤرخ الإيطالي لويغي رينالدي كثيراً بابن رشد، من خلال بحثٍ عنوانه "المدينة العربية في الغرب"، قال فيه: "ومن فضل العرب علينا أنهم عرّفونا بكثيرٍ من فلاسفة اليونان، وكانت لهم الأيدي البيضاء في النهضة الفلسفية عند المسيحيين".
وتابع يقول: "وكان الفيلسوف ابن رشد أكبر مترجم وشارح لنظريات أرسطو. ولذلك كان له مقام جليل عند المسلمين والمسيحيين على السواء".
من جهته، ذكر المفكر الإنكجيزي جون روبرتسون في كتابه "تاريخ موجز للفكر الحر" أن ابن رشد "أعظم المفكرين المسلمين أثراً، وأبعدهم نفوذاً في الفكر الأوروبي، فكانت طريقته في شرح أرسطو هي المثلى".
وكتب المستشرق الإسباني البروفيسور ميغيل هرنانديز أن الفيلسوف الأندلسي ابن رشد "سبق عصره، بل سبق العصور اللاحقة كافة، وقدّم للعلم مجموعة من الأفكار التي قامت عليها النهضة الحديثة".
ورأى هرنانديز أن ابن رشد قدّم رؤية أكثر شمولاً وإنسانية للمدينة الفاضلة (التي حلم بها أفلاطون) وكان يرى أنه بالإمكان قيام مجموعة مدن فاضلة، تنشأ فيما بينها علاقات سلمية فاضلة، واعتقد أن الحروب بين الدول هي نهاية العالم.
برع في الطب والفلك والفيزياء.. وله كتب في الفقه الإسلامي
بالإضافة إلى الفلسفة، برع ابن رشد في مجالات علمية عديدة، كالطب والفلك والفيزياء، وله فيها بعض المخطوطات والكتب، على غرار كتاب "الكليات في الطب"، وشرح "أرجوزة ابن سينا".
ألّف ابن رشد نحو عشرين كتاباً في الطب، بعضها تلخيصات لكتب جالينوس، وبعضها مصنفات ذاتية؛ وأشهرها كتاب "الكليات في الطب"، وهو موسوعة طبية من سبعة مجلدات، شرح فيها وظائف أعضاء الجسم ومنافعها شرحاً مفصلاً دقيقاً. كما شرح فيها الجوانب المتنوعة للطب، في التشخيص والمعالجة ومنع انتشار الأوبئة، وقد أجاد في تأليفه.
كما شرح "أرجوزة ابن سينا" في الطب؛ وقد اقترح في شرحه لـ "ابن سينا" ما يصفه الأطباء الآن، وهو تبديل الهواء في الأمراض الرئوية.
وله أيضاً مقال بعنوان "حركة الفلك"، انتقد من خلاله نظرية عالم الفلك والرياضيات الإغريقي بطليموس حول حركة الكواكب، وقد جاء فيه: "من التناقض للطبيعة أن نحاول تأكيد وجود المجالات الغريبة والمجالات التدويرية. فعلم الفلك في عصرنا لا يقدّم حقائق، ولكنه يتفق مع حسابات لا تنطبق مع ما هو موجود في الحقيقة".
وفضلاً عن تلك العلوم، ترك ابن رشد عدة كتب في الفقه الإسلامي، أشهرها "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" و"منهج الأدلة".
وبما أنّه كان فقيهاً في الدين وفيلسوفاً متحرراً في الوقت نفسه، فقد أراد توضيح أهمية التفكير التحليلي كشرطٍ أساسي لتفسير القرآن.فترك كتاباً بعنوان "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، يًمكن من خلاله تلخيص فكر وشخصية ابن رشد التي قد يراها البعض متناقضة، ويتعجبون لارتدائه عمامتي الإمام والفيلسوف في آن واحدٍ.