في ظهر يوم 29 سبتمبر/أيلول 1957، لاحظ سكان منطقة تشيليابينسك في جبال الأورال الجنوبية ألواناً بنفسجية مزرقة غير عادية في السماء، وبعد غضون أيام قليلة من تلك الواقعة، ظهر عدد كبير من الأنشطة الحكومية حول المنطقة العسكرية التي تضم المنشأة النووية "ماياك".
ففي الوقت الذي كان فيه الفلاحون السوفييت بمنطقة تشيليابينسك أوبلاست يستعدون لبدء عمليات الحرث والزرع، اقتحم الجنود السوفييت كشتيم وضواحيها، وأجبروا سكانها على إخلاء المنطقة.
في ظرف أسبوع، تم إخلاء أكثر من 20 قرية، تضم أكثر من 10 آلاف شخص، وتم هدمها بالكامل، لم يتم الإدلاء بأي بيان رسمي بشأن أي من هذه الأوامر، ولم يكن أحد يعلم أنّ كارثة نووية قد حدثت في مشروع ماياك النووي، بحسب الموسوعة البريطانية.
وبسبب وجود هذا المشروع النووي على مقربة من مدينة كشتيم بمنطقة تشيليابينسك أوبلاست، لُقبت هذه الكارثة النووية بكارثة كشتيم، نسبة للمدينة.
مشروع ماياك السوفييتي لا يبالي بالنفايات النووية
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وجد البرنامج النووي السوفييتي نفسه متأخراً بشكلٍ واضح عن نظيره الأمريكي، فكان على الاتحاد السوفييتي إيجاد طريقة من أجل تسريع برنامجه النووي واللحاق بالمستوى الأمريكي.
لتحقيق ذلك، أنشأ السوفييت على عجل مشروعهم النووي المسمى بمشروع ماياك، في الفترة ما بين عامي 1945 و1948، واختيرت له إحدى المدن السوفيتية السرية التي تعرف حالياً باسم مدينة أوزرسك، وجدير بالذكر أن المدينة كانت من ضمن قائمة المدن السوفيتية السرية، ولم تكن حتى على الخريطة السوفيتية الرسمية حتى مطلع الثمانينيات في القرن المنصرم!
بحلول عام 1949 أُنتجت أول قنبلة نووية سوفيتية، بعد هذا النجاح الأولي، طالبت موسكو من برنامجها النووي العمل على إنتاج المزيد من القنابل الذرية في وقتٍ أقل.
أهمل الخبراء والفيزيائيون السوفييت العديد من عوامل السلامة أثناء عملهم على مشروع ماياك من أجل إنتاج عدد أكبر من القنابل الذرية.
وعلاوة على موقعه الجغرافي السيئ، لم يكن بمشروع ماياك النووي مكانٌ مناسبٌ للتخلص من النفايات النووية السائلة.
ونتيجة لتجاهل معايير السلامة الأساسية في مشروع ماياك، تلقى نحو 17245 عاملاً في المشروع جرعات زائدة من الإشعاع بين عامي 1948 و1958، كما تسبب إلقاء النفايات النووية في النهر القريب من موقع ماياك، في الفترة من عام 1949 إلى عام 1952، إلى انتشار العديد من الأمراض الإشعاعية في القرى الواقعة أسفل المصب، وهكذا كان سكان المنطقة على دراية بالمخاطر غير المرئية القادمة من هذا الموقع السري.
مدينة سرية لإخفاء كارثة كشتيم
اعتمد السوفييت على السريّة الشديدة في تسيير مشروعهم النووي، كما كان الحال مع معظم شؤونهم الحكومية وأزماتهم الداخلية.
لم تشمل السرية السوفيتية في مشروع ماياك النووي، القرارات والأبحاث وحتى مواقع العمل فقط، بل شملت أيضاً المدن التي كانت تحتضن المفاعلات النووية ومؤسسات البحث والصناعة الحربية.
لتحقيق طموحهم النووي، أنشأ السوفييت 10 مدن نووية في عدة مناطق من الاتحاد السوفييتي، عرفت تلك المدن اختصاراً باسم "ZATO".
كانت تلك المدن النووية المغلقة والسريّة عبارة عن مجتمعات أرستقراطية، حيث يتلقى فيها العمال أجوراً أعلى، ورعاية صحية قيّمة، إضافةً إلى إسكانٍ أريح وفرص تعليمية أفضل لأطفالهم، وللعمل في "ZATO" يتمُّ التدقيق في تاريخ الموظفين السياسي والصحي.
لا أحد كان له الحق في الدخول إلى تلك المدن إلا أهلها فقط، لا أحد يمكنه الزيارة دون أن يكون مقيماً في المدينة، والأغرب من ذلك أنّ هذه المدن لم تكن تُسجل على الخرائط الرسمية التي تقرها الحكومة السوفييتية، ولم تكن تُعامل في القرارات والعمليات السياسية باسمها الحقيقي، بل كانت تُمنح رقماً، مثل مدينة أوزرسك التي تحتضن مشروع ماياك، والتي كانت تسمى لدى الحكومة باسم "المدينة رقم 40″، والتي لم يعرف بشأنها سوى في ثمانينيات القرن الماضي!
شرعت الحكومة السوفييتية في بناء المدينة رقم 40 حول مفاعل ماياك عام 1946، وتمّ نقل آلاف العمال والمهندسين والعلماء إليها، مع توفير جميع شروط وسبل الراحة لهم، في مقابل أن يعيشوا حياة سرية داخل المدينة السرية.
كارثة كشتيم النووية التي لم تضع لدرجات الحرارة أهمية
خلال عام 1953، أنشأ السوفييت مكاناً لتخزين النفايات النووية السائلة الخاصة بموقع ماياك النووي. وبسبب درجات الحرارة العالية التي تميزت بها هذه المواد المشعة، جهّز السوفييت مواقع التخزين بعدد ضئيل من أجهزة التبريد.
في 29 سبتمبر/أيلول 1957، تعطّل جهاز التبريد بأحد مواقع تخزين النفايات النووية، ما أدى إلى ارتفاع سريع في درجة الحرارة لأكثر من 350 درجة مئوية، نتج عنه انفجار ضخم عادلت شدته ما بين 70 و100 طن من الديناميت في أنبوب النفايات، ثم تبعته عدة انفجارات أخرى في المشروع كله.
أدى الانفجار إلى تسرب 20 مليون وحدة من الإشعاع السام، وفي خلال 10 ساعات فقط، انتقلت الوحدات المسربة في شكل سحب إشعاعية، وسافرت تلك السحب عبر الهواء إلى أكثر من 20 كيلومتراً في محيط الانفجار.
أثرت كارثة كشتيم على 270 ألف شخص كانوا يعيشون في حوالي 200 مدينة على مقربة جغرافية من موقع الكارثة.
وسعياً منه لإخفاء الكارثة، باشر الاتحاد السوفيتي بعد أسبوع من كارثة كشتيم إلى إجلاء أكثر من 10 آلاف من منطقة كشتيم، كما قامت قواته بهدم آلاف المنازل بالمنطقة القريبة من موقع الانفجار، دون تقديم أي تفسير لما يحصل.
ظلت كارثة كشتيم النووية مخفية لـ30 عاماً
بحسب موقع environment and society، كان من المستحيل منع تسرب المعلومات حول الكارثة، على الأقل في المنطقة المحيطة، فقد ظهرت تقارير متفرقة عن حادث نووي في روسيا في الصحافة الغربية منذ عام 1958، لكن كارثة كشتيم لم تكن معروفة على نطاق واسع حتى عام 1976، عندما كشف العالم السوفييتي زورس ميدفيديف عنها لأول مرة.
ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية خصمها الاتحاد السوفييتي في إبقاء كارثته النووية الأولى سرية حتى عام 1989، فقد كانت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية على علمٍ بكارثة كشتيم منذ زمن طويل، وبحلول عام 1960، كانت شبكتها من المخبرين وصور التجسس الجوي قد زودتها بصورة واضحة عما حدث في كشتيم.
في الحقيقة، لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك القوة الكافية لكشف حقيقة كارثة كشتيم، فقد كان الأمريكان يخشون تعرض صورة الصناعة النووية الناشئة للخطر، كما كانوا يتجنبون طرح المواطنين الأمريكيين أسئلة حول قضايا السلامة في موقع هانفورد النووي التابع للحكومة الأمريكية.
وفقاً لـ soviet history، واصل الاتحاد السوفييتي نفيه لكارثة كشتيم طيلة 30 سنة، حتى اضطرّ إلى الاعتراف بها سنة 1986، عندما انفجرت محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية في أبريل/نيسان 1986، وتسبب في تلوث أجزاء كبيرة من بيلاروسيا وأوكرانيا وغرب روسيا.
وعلى الرغم من سقوط الاتحاد السوفييتي وإعلان روسيا عن توقف مشروع ماياك النووي سنة 2004، لا تزال تأثيراته مستمرة حتى الوقت الحالي، ففي سنة 2017 رصدت سحابة من النشاط الإشعاعي في سماء 14 دولة أوروبية، كان سببها كارثة كشتيم النووية.