تُعرف قبائل الوندال باسم "الفاندال" أيضاً، وهي قبائل جيرمانية الأصل، أي إنها كانت ضمن الإمبراطورية الرومانية. أسّسوا مملكتهم في مدينة قرطاج، ثم استطاعوا ضمّ جزيرة صقلية وعددٍ من جزر البحر المتوسط.
عاشوا في جنوب أيبيريا لمدة طويلة، وانتقلوا من بعدها إلى إفريقيا؛ ومن المعتقد أن اسم مدينة الأندلس يعود في الأصل إلى قبائل الوندال، التي كانت تُسمّى سابقاً "واندالوسيا"، نسبةً إليهم.
تُعرف هذه القبائل باقتحام مدينة روما عام 455 وتخريبها ونهبها، وقد ازدهرت المملكة التي أسّسوها في شمال إفريقيا لمدة قرنٍ تقريباً، حتى غزتها الإمبراطورية البيزنطية عام 534.
لم يكن التاريخ مؤاتياً بالنسبة إليهم، فقد أصبحت كلمة "وندال" مرادفة للتدمير، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن النصوص المتعلقة بهم كتبها بشكلٍ رئيسي الرومان، أو آخرون.
لم يكن الوندال على الأرجح أكثر عنفاً أو تدميراً من البرابرة معاصريهم. وفي الوقت الذي نهبوا فيه روما، حافظوا على سلامة معظم سكان المدينة، ولم يحرقوا مبانيها.
في كتابه "تاريخ الوندال"، كتب تورستن كمبرلاند جاكوبسن، الأمين السابق لمتحف أرسنال الملكي الدنماركي: "رغم الدلالة السلبية التي يحملها اسمهم اليوم، تصرّفوا أثناء نهب روما بشكلٍ أفضل، مقارنةً بالعديد من البرابرة الغازيين الآخرين".
لم يرتبط اسم تلك القبائل بالتخريب والدمار على نطاقٍ واسع، إلا بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، كما كتب ستيفن كيرشو في كتابه "أعداء روما: التمرد البربري ضد الإمبراطورية الرومانية".
وأشار كيرشو إلى أن مصطلح "الوندالية" صار يُستعمل لوصف تدمير الأعمال الفنية، أثناء وبعد الثورة الفرنسية، قبل أن تصبح الكلمة مرادفة للتخريب بشكلٍ عام.
التاريخ المبكر لـ"الوندال"
حوالي القرن الرابع، كان اسم "وندال" يميل إلى أن يطبّق على اتحادَين قبليَّين، هما: الوندال السيلينغ، والوندال الهاسدينغ. ولكن في الأوقات السابقة كان من المحتمل أن يشمل عدداً أكبر من القبائل تحت اسم "ونديلي".
وفي هذا الإطار، من المحتمل أن تكون هذه القبائل قد نشأوا في جنوب الدول الاسكندنافية؛ لا سيما وأن اسمهم يظهر في السجلات التاريخية وسط السويد بأبرشية ويندل، وفقاً لكتاب جاكوبسن.
هناك عدد قليل من السجلات الباقية من السنوات الأولى للوندال. واحدة من أقدم السجلات المكتوبة دوّنها الكاتب الروماني كاسيوس ديو، وتحدّث عن مجموعة منهم بقيادة زعيمَين: راوس ورابتوس، توغلا في داسيا (حول رومانيا الحالية) وأبرما في النهاية صفقة مع الرومان للحصول على الأرض.
ادعى كاتب آخر يُدعى يوردانس (وهو من أصلٍ قوطي عاش في القرن السادس) أنه في القرن الرابع سيطروا على مساحة كبيرة من الأراضي شمال نهر الدانوب، ولكنهم هُزِموا على يد القوط وطلبوا ملجأ مع الرومان.
ويعتقد بعض العلماء اليوم أن هذا الادعاء غير صحيح. في كتابه "المد والجزر البربري"، كتب والتر غوفارت، أستاذ التاريخ الفخري في جامعة تورنتو: "ينقسم المؤرخون الحديثون حول ما إذا كان ينبغي الوثوق بما كتبه يوردانس، حول هذه الهزيمة، وإعادة التوطين في الأراضي الرومانية".
في نهاية المطاف، لا تزال الأدلة على السنوات الأولى للوندال في السجلات المكتوبة نادرة، من دون أن يتركوا أيضاً أي أثرٍ يُذكر في السجل الأثري.
السكون الروماني والهجوم المعاكس
حوالي عام 375، وصلت قبائل الهون شمال نهر الدانوب من السهوب الأوراسية، ودفعوا عدداً من القبائل الأخرى -يُرجح أن الوندال من بينهم- إلى الهجرة نحو الإمبراطورية الرومانية. فأصبحت الإمبراطورية الرومانية، التي كانت تواجه أزمات متكررة في هذه المرحلة، تحت ضغطٍ هائل؛ فانقسمت إلى نصفين، شرقي وغربي، للسيطرة بشكلٍ أفضل على الأراضي الشاسعة للإمبراطورية.
في البداية، لم يهتم الرومان بوصول الوندال إلى أراضيهم. فقد كان الإمبراطور الروماني الغربي هونوريوس يواجه مشاكل أكثر إلحاحاً: استولى أحد جنرالاته على بريطانيا وجزء من بلاد الغال، ونصّب نفسه إمبراطوراً، وحمل اسم قسطنطين الثالث.
وبالنسبة للرومان، فقد كان قسطنطين الثالث وغزوه القوات البريطانية مصدر تهديدٍ أكبر بكثير من نشاط البرابرة في الشمال.
وسط الفوضى التي اجتاحت الإمبراطورية الرومانية الغربية، شق الوندال طريقهم إلى أيبيريا (إسبانيا والبرتغال الحالية) حوالي عام 410، حيث استحوذ الوندال السيلينغ على مقاطعة بايتيكا (جنوب وسط إسبانيا)، بينما هيمن الوندال الهاسدينغ على غاليسيا (شمال غرب إسبانيا).
لاحقاً في عام 418، عانى الوندال السيلينغ من هزيمةٍ على يد القوط الغربيين، فيما طُرد الوندال الهاسدينغ من غاليسيا على يد الجيش الروماني.
بعد هذه الخسائر، توحد الناجون من تلك القبائل في جنوب إسبانيا وقاتلوا ضد الرومان مرة أخرى في عام 422. هذه المرة، حققوا انتصاراً محورياً في معركة بالقرب من تاراكو (تُسمّى الآن تاراغونا)، وهي مدينة ساحلية في إسبانيا. وقد أنقذهم هذا النصر من الدمار.
كان يقود قوات الوندال رجل يُدعى غونديريك، بينما قاد الجنرال كاستينوس القوات الرومانية، التي حاولت تجويع الوندال بقطع خطوط إمدادهم.
نجحت هذه الاستراتيجية في البداية. ومع ذلك، فإن القوط الغربيين، الذين كانوا متحالفين مع الرومان، هجروا الوحدة الرومانية، مما أضعف حجم القوات الرومانية. بعد ذلك، شن كاستينوس هجوماً شاملاً ضد الوندال بدلاً من الاستمرار في قطع خطوط الإمداد الخاصة بهم.
تعرّض الرومان في ذلك الهجوم لضرباتٍ قوية، وفاز الوندال بأول انتصارٍ كبيرٍ لهم منذ عبورهم نهر الراين، وأصبحوا القوة المهيمنة في جنوب إسبانيا. وفي السنوات التي أعقبت نصرهم، عززوا قبضتهم على إسبانيا واستولوا على إشبيلية، بعد شن حملتين ضدّ المدينة في عامي 425 و428.
الانتصار في شمال إفريقيا
عام 428، اعتلى العرش زعيمٌ وندالي جديد يُدعى جينسيريك وقادهم إلى شمال إفريقيا. وتحت حكم جينسيريك، الذي استمر حوالي 50 عاماً، استولى الوندال على جزءٍ كبير من شمال إفريقيا وأنشأوا مملكة فيها.
هذا الفتح كان أسهل بسبب الاقتتال الداخلي الروماني. ففي العام 429، حكم الإمبراطورية الرومانية الغربية طفلٌ اسمه فالنتينيان الثالث، كان يعتمد على والدته غالا بلاسيديا للحصول على المشورة.
في ذلك الوقت، تآمر لواء روماني يدعى أيتيوس ضد حاكم شمال إفريقيا، وهو منافس قوي اسمه بونيفاتيوس. أدى ذلك إلى اعتبار بونيفاتيوس عدواً للإمبراطورية الرومانية الغربية. وبحلول الوقت الذي غزا فيه الوندال شمال إفريقيا، كانت قوات بونيفاتيوس قد هزمت بالفعل هجومين شنتهما الإمبراطورية الرومانية الغربية.
يُقال إن بونيفاتيوس دعا الوندال إلى شمال إفريقيا، والقتال نيابة عنه ضدّ الإمبراطورية الرومانية الغربية. وبغض النظر عن حقيقة هذا الادعاء، لم يكن الوندال بحاجة إلى دعوة. فقد كانت شمال إفريقيا في ذلك الوقت منطقة غنية، وتزود روما بالكثير من حبوبها.
تقدم الوندال بسرعة إلى شمال إفريقيا وحاصروا مدينة هيبو ريجيوس (حالياً عنابة الجزائرية) في عام 430.
فرضوا حصاراً على هيبو ريجيوس لأكثر من عام، لكنهم لم يتمكنوا من الاستيلاء على المدينة، وأُجبروا في النهاية على الانسحاب لأنهم كانوا يتعرّضون لضغط الجوع، فرفعوا الحصار.
وصلت التعزيزات من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وهاجمت قوات بونيفاتيوس بشكل مباشر قوة الوندال المنسحبة. كان الهجوم كارثة على الرومان. فقد دارت معركة شرسة تعرضوا فيها لضرباتٍ قوية وسارعوا إلى الفرار عشوائياً. بعد هذه الهزيمة، تخلى الرومان عن هيبو ريجيوس، فنهب الوندال المدينة.
في عام 435، وقّع الرومان معاهدة سلام تنازلوا بموجبها عن جزءٍ من شمال إفريقيا -ما يُعرَف الآن بالمغرب والجزائر- للوندال. لكن بعد 4 سنوات، كسر الوندال المعاهدة واستولوا على مدينة قرطاج قبل التقدّم نحو صقلية.
عندما استولوا على أراضي في شمال إفريقيا، اضطهدوا رجال الدين الكاثوليك، واتبعوا نوعاً مختلفاً من المسيحية، يُعرف باسم الآريوسية.
والآريوسية اسم يُنسب إلى تعليم الكاهن آريوس الذي عاش في الإسكندرية-مصر، أوائل القرن الرابع. كان إيمانه الأساسي أن يسوع الابن قد خلقه الله الآب الله. لذلك فإن الله موجود دائماً، وبالتالي كان متفوقاً على الابن. وقد خلق يسوع الروح القدس، تحت رعاية الآب، وبالتالي كان خاضعاً لكليهما.
هذه المعتقدات المختلفة التي تميّز الوندال عن الرومان، جعلتهم يضطهدون رجال الدين الرومان.
نهب الوندال لروما
كانت مملكة الوندال في أوجها تشمل المنطقة الممتدة من شمال إفريقيا، على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط في تونس والجزائر الحديثة، بالإضافة إلى العديد من الجزر التي شملت: صقلية، وسردينيا، وكورسيكا، ومالطا، ومايوركا، وإيبيزا. وقد منحهم هذا التمدد، السيطرة على الكثير من إمدادات الحبوب في روما.
أصبح ملكهم جينسيريك قوياً للغاية ومؤثراً بحلول عام 455، وكان من المقرر أن يتزوج ابنه هونريك من أميرة رومانية تدعى يودوكيا. ولكن عندما قُتل فالنتينيان الثالث، الذي كان بلغ في ذلك الوقت سن الرشد، عُهِدَت يودوكيا إلى رجلٍ آخر. ورداً على هذه الجريمة، قام جينسيريك الغاضب بتحريك قواته نحو روما.
كان الرومان عاجزين عن منعه. وبدلاً من إرسال جيش للقتال، أوفدوا البابا ليو الأول للتفاهم مع جينسيريك. وليس معروفاً ما إذا كان هذا قد حدث بالفعل أم لا، لكن سُمح للوندال بدخول روما ونهبها من دون معارضة، ما داموا يتجنبون قتل السكان وإحراق المدينة!
في كتابه، يروي جاكوبسن: "لمدة 14 يوماً، كانت قوات جينسيريك ينهبون ثروات المدينة على مهل. وقد أُزيل كل شيء من القصر الإمبراطوري على تل بالاتين، وأُفرِغَت الكنائس من كنوزها. ورغم هذه الإهانة الكبيرة لروما، كان جينسيريك أميناً لكلمته ولم يدمر المباني أو يقتل الناس".
ومع ذلك، فقد ذُكر في بعض الروايات القديمة أن جينسيريك أسَرَ بعض الرومان وأعادهم إلى شمال إفريقيا كعبيد.
بعد النهب، عاد الوندال إلى مملكتهم في شمال إفريقيا، التي حاول الرومان استعادتها في عدة مناسبات، لأنها كانت مصدراً أساسياً للحبوب.
معارك متتالية للقضاء على الوندال
شنّ الإمبراطور أفيتوس حملة ضد الوندال وفشلت. ورداً على ذلك، قطع الوندال إمدادات الحبوب في إيطاليا، الأمر الذي أثار اضطرابات في روما. لاحقاً أطلق خليفة أفيتوس، ماجوران، حملة أخرى ضدّ الوندال. فشلت أيضاً، واضطر إلى توقيع معاهدة سلام معهم.
ووفقاً لموقع Live Science، وبمساعدة قوات من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، أطلق الإمبراطور بروكوبيوس أنثيميوس حملة أخرى لاستعادة شمال إفريقيا، تضمّنت أسطولاً من 1100 سفينة. بعد نجاحٍ أوّلي، عانى الأسطول من خسائر فادحة بسبب استخدام الوندال للسفن النارية (سفن محملة بمواد قابلة للاشتعال، وأضرمت فيها النيران بالقرب من سفن العدو)، وفي النهاية فشلت هذه الحملة أيضاً، واضطر الرومان إلى توقيع معاهدة سلام أخرى.
توفي جينسيريك عام 476، بعد أن حكم لما يقرب من خمسين عاماً. وحوَّلهم من قبيلة متجولة إلى أسياد مملكة عظيمة في المقاطعات الغنية بشمال إفريقيا الرومانية.
ومع ذلك، واجه خلفاء جينسيريك مشاكل اقتصادية، وخلافات حول الخلافة (نصت قواعد الوندال على أن يكون الملك هو الأكبر من الذكور في الأسرة) وصراعات مع الإمبراطورية البيزنطية، الإمبراطورية الرومانية الشرقية التي كان مقرها في القسطنطينية.
حاول حكام الوندال في وقت لاحق إصلاح الوضع في المملكة، لكن باءت محاولاتهم بالفشل. فقد شنّ البيزنطيون غزواً ناجحاً لمملكة الوندال، وأسروا آخر ملوكها (جيليمير) الذي نُقِلَ إلى القسطنطينية.
عامل الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول جيليمير باحترام، وعرض أن يجعله نبيلاً رفيع المستوى، إذا تخلى عن معتقداته المسيحية الآريوسية واعتنق المسيحية الكاثوليكية. ورغم رفض جيليمير العرض، دعاه جستيان للتقاعد في إحدى أراضي اليونان، لتكون هذه نهاية الوندال.