لعقودٍ طويلة، كان البحر المتوسط ميداناً للصراع بين العالمين الإسلامي والمسيحي، فقد نجح البحارة المسلمون في بسط هيمنتهم على الحوض المائي الفاصل بين قارتي أوروبا وإفريقيا، وكبدوا السفن البحرية الأوروبية خسائر كبيرة، بل وصل هؤلاء البحارة لتأسيس دول وإمارات، لتكون قاعدة خلفية لنشاطهم في الجهاد البحري.
كان مراد رايس الأصغر واحداً من هؤلاء البحارة المسلمين الذي أذاقوا الأوروبيين في المتوسط الويلات، ووصلت غاراته البحرية حتى إنجلترا وأيرلندا، وكتب سيرة عظيمة بين أمواج البحر المتوسط.
مراد رايس الأسير الهولندي الذي صار أميراً للبحار
في سنة 1575م، وفي مدينة هارلم الهولندية، وُلد الطفل يانسن فان هارلام الذي سيأخذ فيما بعد اسم مراد رايس، لعائلة مسيحية، لا تذكر المصادر التاريخية سوى القليل عن حياته المبكرة، فقد تزوّج مراد رايس مبكراً، وأنجب طفلاً هو ليسبيث جانسون فان هارلم.
مع مطلع القرن الـ17م، كان البحر المتوسط ساحةً للقرصنة، فاختار مراد رايس امتهان القرصنة مع البحارة الهولنديين لسنواتٍ طويلة، انطلاقاً من ميناء مدينة هارلم الهولندية.
لم يكن العمل في القرصنة من هولندا مربحاً بشكل كافٍ، لذلك تجاوز مراد رايس في نشاطه بالقرصنة، إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط.
هناك، كان مراد رايس يهاجم كلّ سفينة تقع بين يديه، ويضع العلم الهولندي على سفنه، عند مهاجمة سفن المسلمين، وعندما يهاجم السفن الأوروبية يرفع العلم العثماني للتمويه.
قبل أن يسقط مراد رايس في أسر البحارة العثمانيين سنة 1618م، قبالة جزر الكناري الإسبانية، حيث تم نقله لأحد سجون إيالة الجزائر العثمانية.
في مكان أسره بالجزائر، التقى مراد رايس مع بحارٍ عثماني من أصولٍ هولندية، هو البحار سليمان رايس، الذي كان أحد قادة الأسطول البحري العثماني بإيالة الجزائر، الذي قام بتحريره من الأسر، وضمه إلى طاقمه البحري، بعد إشهار إسلامه.
تزوّج مراد رايس من امرأة جزائرية، وظل ينشط في الجهاد البحري رفقة قائده الرايس سليمان، حيث شارك في عمليات الجهاد البحري رفقة الأسطول العثماني الجزائري، وارتقى إلى أن أصبح قائداً بحرياً في الأسطول الجزائري.
أثرت اتفاقيات السلام والحماية التي وقعتها إيالة الجزائر العثمانية مع العديد من الدول الأوروبية، على حجم أرباح وغنائم ونشاط الجهاد البحري على السواحل الجزائرية والتونسية، ومع استشهاد قائده الرايس سليمان سنة 1619م، قرّر مراد رايس الرحيل إلى ميناء مدينة سلا بالمغرب الأقصى لمزاولة نشاط الجهاد البحري.
مراد رايس أمير البحار الذي هيمن على المتوسط
تزامن رحيل مراد رايس إلى مدينة سلا في المغرب الأقصى، مع إصدار ملك إسبانيا فيليب الثالث، مرسوم طرد المورسكيين عام 1609، ما أجبر نحو 3 آلاف منهم على مغادرة مدينة هورناتشوس، فتوجهوا إلى مدينة سلا بالمغرب الأقصى.
في البداية كان مراد رايس ينتقل من المغرب الأقصى إلى المغرب الأوسط، إلى أن تعرّف على الموريسكيين الذين عادوا من إسبانيا فارّين، وتعاون معهم على الانتقام من الإسبان عبر أنشطة الجهاد البحري.
يذكر الدكتور حسن أميلي في كتابه "الجهاد البحري بمصب أبي رقراق" أن مراد رايس، أقدم على الاستفادة من مرسى سلا وأطلق منها حملة على جزر الكناري، نجح خلالها في نهب مدينة لانزروت وأسر 300 شخص والهروب من أسطول حربي إسباني. فيما عدها أميلي "نقطة تأسيس الجهاد المنتظم الذي سيضطلع به على امتداد القرن السابع عشر، مجاهدو سلا الجديدة".
مشاركته في تأسيس جمهورية سلا
وفي سنة 1614م، احتل الإسبان مدينة المهدية الواقعة غير بعيد من مدينة سلا، كانت مدينة المهدية معقلاً للبحارة المسلمين الذين ينشطون في الجهاد البحري، أدى ذلك إلى نزوح البحارة إلى مدينة سلا.
أعجب السلطان المغربي مولاي زيدان بشخصية مراد رايس ومهارته وانتصاراته البحرية، فعيّنه سنة 1624، حاكماً على سلا.
نجح مراد رايس في تطوير المدينة، وتعزيز اقتصادها من خلال أنشطة الجهاد البحري في مدينة سلا، وتحويلها إلى قاعدة للجهاد البحري، أعلن مراد رايس سنة 1627 رحيله عن المدينة، والعودة إلى الجزائر.
أدى ذلك إلى إعلان بحارة سلا الذين كانوا تحت قيادة مراد رايس إلى التمرد على السلطان المغربي مولاي زيدان والتوقف عن دفع الضرائب، والأكثر من ذلك، أعلنوا قيامة دولتهم الخاصة تحت مسمى جمهورية سلا.
غزوات مراد رايس تصل إلى شمال المحيط الأطلسي
بعودته إلى الجزائر، وسّع مراد رايس من نطاق نشاطه البحري من غرب المتوسط إلى شمال المحيط الأطلسي، فأغار مراد رايس على شواطئ إسبانيا والبرتغال وفرنسا وإنجلترا حتى وصل إلى ساحل أيسلندا.
ولعلّ أبرز موقعتين بقيتا شاهدتين على غزوات مراد رايس، هما إغارته على ساحل أيسلندا وأيرلندا.
ففي 20 يونيو/حزيران 1627، على سواحل أيسلندا، تحديداً قرية جريندافيك، وهناك استطاع أسطول مراد رايس أسر ما بين 12 إلى 15 شخصاً، واستولى على سفينتين أيسلنديتين.
استمرت غزوة مراد رايس في الأراضي الأيسلندية، حيث حاول الوصول إلى قصر بيسستاير الذي كان يسكنه الحاكم الدنماركي، والذي كانت أيسلندا تحت حكمه في ذلك الوقت، إلا أنهم تعرضوا لهجوم أدى ببحارة مراد رايس إلى الانسحاب، وذلك حسب الرواية التي وردت في تقرير لموقع visindavefur الأيسلندي.
أمّا الموقعة الثانية فكانت في 20 يوليو/تموز 1631م، حين أغار مراد رايس رفقة 230 بحاراً من بحارته، على مدينة بالتيمور الأيرلندية. هاجم مراد رايس خلال غزوته تلك، قرية كوف الأيرلندية في البداية، حيث نجح في أسر 108 من سكانها، ثم تحول للإغارة على بالتيمور نفسها، إلّا أن مقاومة سكان المدينة صدته، فعاد أدراجه إلى الجزائر بحمولته من الأسرى والغنائم، وذلك حسب كتاب "منذ فترة طويلة.. المزيد من الحكايات عن التاريخ الأيرلندي الأقل شهرة"، لمؤلفه رونان جيرو أو دومنيل.
في عام 1635، وبالقرب من الساحل التونسي، كان مراد رايس يبحر برفقة عددٍ قليل من بحارته، حيث تفاجأ بهجومٍ من قبل فرسان القديس يوحنا الذين كانوا ينشطون في المنطقة ويتخذون من مدينة طرابلس قاعدةً لهم.
سقط مراد رايس في أسر فرسان مالطا رفقة رجاله، حيث قضى 5 سنوات في جزيرة مالطا، وقد تعرض فيها مراد رايس إلى سوء المعاملة والتعذيب بشكل كبير، أثر ذلك في حالته الصحية والنفسية، قبل أن ينجح العثمانيون في تحريره سنة 1640.في كتابها "سلا وقراصنتها"، تبرز الكاتبة المغربية ليلى مزيان، بأن مراد رايس "أنهى مسيرته أميرالاً للجزائر، وكان من بين كثير من الرجال الأوروبيين، الذين جرّبوا حظهم في الضفة البربرية لإفريقيا".