قبل أكثر من 200 عام، أبيد آلاف المسلمين واليهود بشكل جماعي على أيدي جيرانهم من المتمردين اليونانيين في شبه جزيرة بيلوبونيز اليونانية. ولم يفرق اليونانيون بين رجل وامرأة وطفل في تلك المجزرة التي باتت تعرف بـ"مجزرة تريبولي"، فما الذي جرى تحديداً في تلك الفترة؟
مجزرة تريبولي.. 20 ألف ضحية
"لقد تركوا عدداً قليلاً جداً من الأتراك في اليونان، ففي عام 1821، تم تدمير مدينة تريبولي بالكامل فجأة، دون علم العالم، وقتل أكثر من 20 ألف رجل وامرأة وطفل تركي على أيدي جيرانهم الغوغاء اليونانيين، خلال المذبحة التي استمرت لعدة أسابيع، تم قتلهم عمداً ودون ندم".
هذا ما قاله المؤرخ البريطاني المعروف وليام لين سانت كلير في وصف أحداث مجزرة تريبولي، التي ارتُكبت بحق العثمانيين من المسلمين واليهود في شبه جزيرة بيلوبونيز اليونانية، في كتابه "اليونان قد تظل حرة".
ورغم أن القصة بدأت عام 1821، إلا أن جذورها تعود إلى عام 1460. تعالوا نروِ لكم القصة كاملة..
عودة للوراء.. الدولة العثمانية تضم اليونان ومدينة تريبولي
خضعت اليونان لسيطرة الدولة العثمانية في منتصف القرن الـ15 على يد السلطان محمد الفاتح، بعد فتحه للقسطنطينية عام 1453، وقد دخلت اليونان بأكملها تحت حكم العثمانيين بحلول عام 1460، وكانت شبه جزيرة بيلوبونيز "موريا" ذات الموقع الاستراتيجي المهم من ضمن الأراضي التي تم ضمها للدولة العثمانية. وكانت مدينة تريبولي، الواقعة أقصى جنوب اليونان هي عاصمة منطقة بيلوبونيز الإدارية، ومركز تلك الجزيرة.
استمر الحكم العثماني في اليونان ذات الأغلبية السكانية المسيحية حوالي قرنين من الزمن، اتسمت بكثرة التوترات بين الدولة العثمانية ورعاياها اليونانيين، إلا أن الجميع ومن مختلف الأطياف والديانات عاشوا معاً في جزيرة بيلوبونيز.
بطبيعة الحال، لم يكن اليونانيون موالين للدولة العثمانية، لاختلاف دينهم عن دين دولتهم المسلمة، فاتخذوا مواقف مُعادية لها، وتحالفوا عدة مرات مع خصومها مثل البندقيين والروس، في الحروب بين العثمانيين وحكام البندقية، والحرب الروسية التركية (1768 – 1774)، كما نظم اليونانيون في تلك الفترة عدداً من الانتفاضات أبرزها انتفاضة الفيلسوف ديونيسيوس ضد الحكم العثماني.
الدولة العثمانية في مواجهة التمردات
في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، عانت الدولة العثمانية من اضطرابات عديدة أضعفت من قوتها وسيطرتها على مناطق عديدة؛ فقد أنهكتها التمردات الداخلية والحروب الخارجية، لتجد نفسها أمام أزمات مالية وإدارية كبرى.
وفي تلك الفترة، اشتعلت موجة التمرد ضد الدولة العثمانية، التي أدت إلى انفصال مصر عنها تحت حكم محمد علي باشا عام 1805، وتمردات أخرى حدثت في البلقان، وتمرد الصرب، الذين استغلوا الحرب الروسية العثمانية، وكانت أبرز تلك الحركات التمردية، تمرد تيبيدلينلي علي باشا حاكم منطقة يوانينا في اليونان.
لعب اليونانيون دوراً بارزاً في إشعال تمردات دول البلقان، مستغلين انشغال الدولة العثمانية في محاولاتها للتعامل مع المصائب التي تلاحقها واحدة تلو الأخرى، فتوجه تجار يونانيون إلى مدينة أوديسا في أوكرانيا، وأنشأوا هناك منظمة سرية عام 1814 تسمى "فيليكي إيتيرا"، أي المجتمع الودي.
هدفت هذه المنظمة إلى الإطاحة بالحكم العثماني في جنوب شرق أوروبا، وإقامة دولة يونانية مستقلة، واستطاعت أن تأخذ دعماً واسعاً من روسيا وبعض الدول الأوروبية، وأصبح لديهم كل الإمكانيات اللازمة للقيام بثورة تطيح بحكم المسلمين في بلادهم.
كانت الفرصة الذهبية للمنظمة عام 1821، عقب الهزيمة الكبرى التي ألحقها العثمانيون بتيبيدلينلي علي باشا، الذي كان يمثل قوة لا يستهان بها في منطقة البلقان، وكانت هزيمته مهمة لليونانيين من ناحيتين، الأولى أن خوض الدولة العثمانية في حربها ضد علي باشا، يعني أنها أُنهكت واستنفدت، حتى وإن انتصرت.
أما الثانية هي أن علي باشا، بعد القضاء عليه، ترك فراغاً سياسياً وعسكرياً في المنطقة التي كان نفوذه بها كبيراً، من ألبانيا وصولاً إلى اليونان، لذلك أرادت المنظمة استغلال هذه الفرصة بشكل سريع، لملء هذا الفراغ وضرب الدولة العثمانية التي لم تجمع قوتها بعد.
توافد الفارون من التمردات المقموعة في الشمال إلى البيلوبونيز، التي اعتبروها آمنة نسبياً، وهكذا، تجهزت الظروف بشكل كامل للمنظمة ومؤيدي الاستقلال اليوناني، لتبدأ حركة التمرد وتندلع حرب الاستقلال اليونانية.
حرب الاستقلال اليونانية.. المتمردون ينقضون عهدهم
في شهر فبراير عام 1821، اندلعت حرب الاستقلال اليونانية التي استمرت لعدة سنوات، وعملت المنظمة اليونانية على إشعال التمرد وبدء أعمال القتل والتخريب بشبه الجزيرة "بيلوبونيز" التي فقد العثمانيون السيطرة على زمام أمورها في 22 فبراير/شباط 1821، وكان السكان غير اليونانيين على موعد مع إبادة جماعية لم تكن تخطر على بالهم.
بعد اندلاع التمرد في عموم اليونان بـ7 أشهر، تمت السيطرة على مدينة تريبولي من قبل اليونانيين في 23 سبتمبر/أيلول من عام 1821، بعد أن ضربوا عليها حصاراً مشدداً، وشنوا هجمات كبرى ضد قوات العثمانيين.
وفور الاستيلاء على المدينة، توجه وفد ممثل عن السكان المسلمين إلى القوات اليونانية المتمردة، حيث وقعوا معهم على اتفاقية تضمن خروج المدنيين من المدينة، آمنين على أرواحهم وعائلاتهم، إلا أن المتمردين نكثوا عهدهم، خلال الأيام الثلاثة التي تلت الاستيلاء على المدينة وتوقيع الاتفاقية.
وبعد أن غادر الوفد، فوجئ بأن القوات اليونانية المتمردة قد نكثت عهدها معهم، وبدأوا يقتلون رعايا الدولة العثمانية من الأتراك والألبان المسلمين واليهود دون تمييز، ولم يسلم أحد من الاستهداف اليوناني، حيث أرادوا أن تخلو المدينة تماماً من كل العرقيات والديانات الأخرى.
وعلى الفور حاول بعض اليهود المقيمين في المدينة الهروب منها، إلا أنهم وجدوا القوات اليونانية تحاصرهم من كل مكان، وقد لاقوا نصيبهم أيضاً من التعذيب والقتل بكل وحشية، كما حدث بجيرانهم المسلمين.
إبادة جماعية.. المتمردون يقتلون عشرات الآلاف من المسلمين واليهود
وعن أهوال ما حدث في هذه الأيام، ينقل لنا عالم السكان والمؤرخ الأمريكي جاستن مكارثي الصورة المأساوية التي حلت بالمسلمين.
يقول مكارثي: "لمدة 3 أيام، استسلم المدنيون الأتراك الفقراء إلى شهوة وطغيان حشد من المتوحشين القساة، لم يفرقوا بين الجنس ولا العمر، فحتى النساء والأطفال تعرضوا للتعذيب قبل قتلهم".
يتابع مكارثي أن المذبحة كانت مهولة شملت كل أنحاء المدينة، لدرجة أن أحد قادة التمرد اليونانيين ويدعى كولوكوتوريس قال إنه عندما دخل المدينة بدءاً من بوابة الحصن العليا، لم تلمس قدم حصانه الأرض أبداً، إذ كان مسار موكب احتفال النصر الذي كان يتقدمه معبّداً بأكوام من الجثث.
فيما يقول المؤرخ التركي علي فؤاد أورينتش، الذي جمع المعلومات والوثائق من خلال متابعة هذا العدد لسنوات، في كتابه "الأتراك البيلوبونيز"، إن عملية التمرد حدثت بتأثير كبير من مجموعات اليسار المسيحية التي تعيش في مرتفعات الجزيرة، الذين هيجوا مشاعر المتمردين لنهب جميع القرى وذبح جميع العثمانيين دون تمييز.
وقد جمع المؤرخ البريطاني ديفيد هوارث في أعماله، روايات ضابط أوروبي شهد الأحداث، قال إن حوالي 20 أوروبياً كانوا في المدينة أثناء المجزرة، شهدوا همجية اليونانيين، وكان واحد منهم العقيد الأسكتلندي توماس جوردون، الذي قال إن الأحداث التي رآها في تريبولي مرعبة وستبقى مخزية إلى الأبد.
وعن مدى الرعب الذي حل بالمدينة، يتابع هوارث أن المدينة خلت من وجود أي شيء حي خلال 48 ساعة فقط، فقد اختفى عشرات الآلاف من سكان المدينة الأتراك، وقتلوا معظمهم ببتر رؤوسهم وأذرعهم وأرجلهم، قتلوا بسبب شهوة اليونانيون المجنونة للدم.
وعن سبب عدم تدخل العالم وقتها لردع هذه الأحداث، يرى هوارث أن عدد الأجانب الذين يعيشون في اليونان صغير جداً، لذا لم تكن الدولة الأوروبية تعرف ما يجري في اليونان، كما أن التقارير المرسلة من اليونان، يتم إعدادها في أثينا من قبل اليونانيين أنفسهم، لذلك أدان الأوروبيون الدولة العثمانية بدلاً من أن يدينوا همجية اليونانيين.
أعداد غير معروفة من قتلى المسلمين
لم يكتف المتمردون بقتل سكان المدينة فقط، بل سارعوا باستهداف الأسر التركية المسلمة الأخرى التي تعيش في المزارع أو في المجتمعات المعزولة، وحرقوهم في منازلهم أحياءً، كما قتلوا أولئك الذين تركوا منازلهم وحاولوا اللجوء إلى أقرب مدينة، حيث كان المتمردون اليونانيون المسلحون بالعصي والمناجل والبنادق يتجولون بالقتل والنهب وإشعال النار، ينتظرون ويرصدون كل من هو غير مسيحي يوناني.
فيما حاولت مجموعة مكونة من 400 شخص من الأتراك اللجوء للبحر للهروب بأرواحهم، بعد أن خدعهم المتمردون بتوفير قوارب لنقلهم، ليفاجأوا بمجموعات من المتمردين قاموا بقتلهم وحرقهم.
تشير التقديرات إلى مقتل ما يصل إلى 25 ألف مسلم وبعض اليهود، وهناك تقديرات أخرى تقول إنه تم ذبح ما بين 10 آلاف إلى 32 ألف شخص، بينما تقول تقديرات أخرى إنه قبل حدوث المجزرة كان يعيش في البيلوبونيز أكثر من 90 ألف مسلم وعدد من اليهود، اختفوا جميعاً أثناء المجزرة.