شكّل القرن الـ16 م، العصر الذهبي للبحرية العثمانية، خلال ذلك القرن تمكن الرياس والبحارة العثمانيون من فرض سيطرةٍ شبه كلية على المضيق المائي الفاصل بين قارتي أوروبا وإفريقيا، وخاضوا عشرات المعارك الحاسمة مع الأساطيل الأوروبية.
كان البحار العثماني، تورغوت رايس أحد البحارة الذين كتبوا فصولاً عريضةً من سيطرة الأسطول العثماني على المتوسط، فقد زامل لسنوات طويلة أمير البحار، خير الدين بربروس، في غزواته ومعاركه، كما ساهم ذلك البحار في تحرير ليبيا من سطوة فرسان مالطا، وحاول القضاء على فرسان القديس يوحنا بحصار مالطا قبل أن يستشهد في ذلك الحصار.
تورغوت ركب البحار وهو شابٌ صغير
اختلف المؤرخون في تحديد أصل البحار العثماني تورغوت رايس، فبينما تُجمع المصادر الإسلامية والعثمانية على أنّه وُلد سنة 1485، في مقاطعة منتشيه بالسواحل الغربية للأناضول لعائلة عثمانية فقيرة، تشير بعض المصادر الغربية بأنّه كان يونانياً.
لكن الرواية الأغلب إلى الواقع أنه كان من أصلٍ عثماني، وهو ما يشير إليه المؤرخ الإسباني مارمول كارباخال في كتابه "إفريقيا"، حيث قال: "أصله من حصن صغير يقع قبالة جزيرة رودس في إقليم مانطيشيا التركي، وكان أهله أتراكاً من أتباع محمد الفاتح".
بدأت علاقة تورغوت بالبحر مبكراً، حيث إنّه ركب السفينة لأوّل مرة وهو يبلغ من العمر 12 سنة فقط، كما أنّه صار بحاراً يشق أمواج المتوسط مع البحارة العثمانيين وهو في سن 15 عاماً.
في كتابه "الإسبان وفرسان القديس يوحنا في طرابلس"، يصف المؤرخ الليبي عمر محمد الباروني نشأة البحار العثماني تورغوت رايس بالعصامية، ويقول إنه ركب البحار شاباً بدافع حبّ المغامرة، واشتغل في بادئ الأمر على سلاح المجاديف، ثم سلاح المدفعية في السفن؛ قبل أن يقتحم ميدان الجهاد البحري مطلع القرن الـ16م.
استطاع تورغوت في وقتٍ وجيزٍ أن يكوّن أسطولاً من السفن بلغ في بدايته 24 سفينة، وبدأ النشاط في عمليات الجهاد البحري ضد السفن الإسبانية والإيطالية، متخذاً من مدينة جربة التونسية قاعدةً له.
ويبدو أنّ نشاط تورغوت رايس في بداية مسيرته لم يكن بمعزل عن النشاط العثماني في البحر المتوسط، إذ يذكر ابن غلبون في كتابه "التذكار فيمن ملك طرابلس وما كان بها من الأخبار"، أن تورغوت رايس كان أحد البحارة العثمانيين الذين ألهمهم ركوب البحار والمغامرة دفاعاً عن الدولة العثمانية وحلفائها.
ويضيف الباروني في كتابه السابق، أنّ الميزات التي كان يتصف بها تورغوت والانتصارات التي حققها، وصلت إلى مسامع أمير البحار العثماني الشهير خير بربروس، فضمّه إلى أسطوله سنة 1533م، وجعله ساعده الأيمن في غزواته البحرية، بعد أن كان تورغوت يعمل وحيداً مع أسطوله الصغير، ومن هنا تبدأ مسيرة جديدة في حياة تورغوت رايس.
تورغوت رايس شارك بربروس انتصار بريفيزا
بعد سنوات من العمل منفرداً، انضمّ تورغوت رايس إلى أسطول الدولة العثمانية الرسمي الذي كان يقوده أمير البحار خير الدين بربروس، وخاض معه معارك عديدة، أبرزها معركة بريفيزا التي انتصر فيها الأسطول العثماني.
في بريفيزا، كان لتورغوت ريس دورٌ كبيرٌ في الانتصار، فقد كان رفقة أسطوله المكوّن من 20 قطعة بحرية يؤدي مهمة مراقبة تحركات الأسطول الصليبي، قبل أن يلتف بأسطوله على الأسطول الأوروبي وسط المعركة، وعند انتهائها طارد تورغوت السفن الهاربة، وقام بتدميرها والاستيلاء عليها.
كانت علاقة تورغوت رايس بأمير البحار وقائد الأسطول العثماني في النصف الأول من القرن الـ16، خير الدين بربروس، غير عادية، فعلاوة على كونه كان مساعداً أوّل لبربروس، فإن هذا الأخير آثر أن يكون تورغوت رايس صهراً له، فزوَّجه ابنته.
سقط في أسر أندريا دوريا 4 سنوات
بعد معركة بريفيزا، والتي انهزم فيها الأدميرال الإسباني الشهير أندريا دوريا أمام خير الدين بربروس ومساعده تورغوت رايس.
قرّر أندريا دوريا تكليف ابن أخيه جيانينو دوريا، بالبحث عن تورغوت رايس من أجل أسره أو تصفيته، لدوره الكبير في معركة بريفيزا البحرية، وذلك بحسب ما ورد في بحث علمي للدكتور شافعي درويش، أستاذ التاريخ بجامعة الجلفة الجزائرية تحت عنوان "أمير البحار دورغوت رايس ودوره في الحوض الغربي للبحر المتوسط".
في سنة 1540م، وبينما كان تورغوت رايس يقود إحدى سفنه إلى جزيرة كورسيكا، تعرّض له جيانتينو وقام بمحاصرته، ومن تمّ أسره، ووجد تورغوت نفسه يعمل جدافاً بسفينة إسبانية.
استمر وضع تورغوت هكذا لـ4 سنوات، وكان عمره حينها 60 عاماً، قبل أن ينجح رفيقه خير الدين بربروس من فديته.
كانت فدية تورغوت ريس باهظة ومكلفة، فقد حصلت إمارة جنوة على امتياز صيد المرجان وإقامة مرسى بجزيرة طبرق، بينما تحّل أندريا دوريا على 3 آلاف قطعة ذهبية. ووقعت معاهدة هدنة بين الدولة العثمانية والمملكة الإسبانية، وبعد خروجه من الأسر، رفض تورغوت ريس الاعتراف بالهدنة الموقعة بين الطرفين، وزاول ممارسة عمليات الجهاد البحري ضد السفن الإسبانية والإيطالية بحسب البحث العلمي السابق.
استطاع تورغوت تكوين أسطول جديدٍ مكوّن من 14 سفينة، غزا بها سواحل نابولي، ثمّ حرّر سواحل سوسة، والمنستير.
تورغوت رايس خليفةٌ لخير الدين بربروس في قيادة الأسطول العثماني بالمتوسط
في يوليو/تموز 1546م، إهتزّت الدولة العثمانية على خبر وفاة أمير بحارها وقائد أسطولها خير الدين بربروس، وكانت الفرحة عارمة في أوروبا، نتيجة وفاة البطل الذي طالما أرعب البحرية الإسبانية والبرتغالية في البحر المتوسط.
كان الجميع يتساءل حول الشخص الذي بمقدوره أن يخلف خير الدين بربروس، ولم يكن ذلك الشخص سوى تورغوت رايس الذي قاد الأسطول العثماني عام 1552م، في معركة بونزا التي حقق فيها تورغوت رايس انتصاراً كاسحاً على أسطول جنوة، كما استطاع أن يهزم الملك الإسباني شارلكان ويحرّر قلعة باستيا سنة 1553م.
ساهم في تحرير ليبيا من سطوة فرسان القديس يوحنا
في سنة 1530م، سقطت طرابلس الليبية في يد فرسان القديس يوحنا، سارع الليبيون في طلب العون من السلطات العثمانية لصد فرسان القديس يوحنا أسوة بما فعل سكان الجزائر وتونس.
استدعى السلطان سليمان القانوني تورغوت إلى إسطنبول، وطلب منه فتح طرابلس تحت قيادة سنان باشا ومراد أغا، بعد أن زودهم بأسطول قوي بلغ 120 سفينة.
وفي 15 أغسطس/آب 1551، استطاع تورغوت باشا رفقة سنان باشا أن يحرروا طرابلس، ويطردوا فرسان القديس يوحنا منها، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت طرابلس الغرب ثان إيالة عثمانية بحرية في شمال إفريقيا بعد الجزائر.
في فترة تحريره طرابلس، كان تورغوت يأمل أن يختتم مسيرته الحربية بإدارة المدينة التي أعجبته، لكن السلطان سليمان القانوني فضّل تعيين مراد باشا والياً عليها، بحسب المؤرخ الليبي الباروني.
وسرعان ما قام السلطان سليمان القانوني بعزل مراد باشا، وتعيين تورغوت رايس والياً على طرابلس سنة 1553.
يذكر المؤرخ الليبي محمد الطاهر الزاوي في كتابه "ولاة طرابلس من بداية الفتح العربي الى نهاية العهد التركي" أنّ تورغوت رايس أحسن الولاية على طرابلس، فقام بتشييد الأبراج والأسوار لحماية المدينة من هجمات الغزاة، كما قام بتشجيع الزراعة وإنعاش التجارة، معتمداً في ذلك على الغنائم التي تأتي بها غزوات أسطوله في المتوسط.
وقام تورغوت باشا بتوسيع نفوذ ولايته طرابلس؛ إذ وصل من مدينة صفاقس بتونس غرباً حتى الحدود المصرية شرقاً.
أراد القضاء على فرسان القديس يوحنا لكنّهم قتلوه
لم ينتهِ صراع تورغوت رايس مع فرسان القديس يوحنا عند أسوار طرابلس، فقد حاول البحار العثماني إبادة هذه المنظمة العسكرية التي أوغلت في القتل والسطو على سفن المسلمين، وشكلت تهديداً للدولة العثمانية، متخذةً من جزيرة مالطا عاصمةً لها.
ٍولتحييد هذا الخطر، قام السلطان العثماني بإعطاء أوامره إلى واليه بطرابلس تورغوت رايس من أجل المشاركة في حملة عسكرية ضد فرسان القديس يوحنا بمالطا.
في أوائل شهر يوليو/تموز 1565، توجّه تورغوت رايس برفقة أسطولٍ مشكّلٍ من 28 سفينة و3 آلاف جندي للمشاركة في حصار مالطا.
وخلال الحصار، أصيب تورغوت رايس بشظية في رأسه؛ توفي على أثرها عن عمر يناهز 80 عاماً، ليُنقل ويتمّ دفنه في طرابلس دون أن يحقق الجيش العثماني النصر على فرسان يوحنا.