في الوقت الذي كان فيه مجال الطيران في المغرب حكراً على الرجال فقط، خصوصاً الفرنسيين منهم خلال سنوات الحماية، تمكنت ثريا الشاوي، التي لم تتجاوز 16 سنة، من الدخول إلى هذا المجال، الذي أحبته بمحض الصدفة.
وبالرغم من صغر سنها، فإن ثريا، التي وُلدت داخل عائلة فنية في المغرب، تمكنت من تحقيق العديد من الإنجازات في عالم الطيران، وبصمت اسمها في التاريخ، كأول امرأة عربية تقود الطائرة.
لكن، وبالرغم التشجيع والدعم الذي حصلت عليه من العديد من الشخصيات المهمة، أبرزهم ملك المغرب في ذلك الوقت محمد الخامس، كان أعداء النجاح يتربصون بها في العديد من الأحيان، محاولين اغتيالها، وكانت المحاولة الرابعة ناجحة، وقُتلت قبل يوم واحد من إعلان استقلال المغرب.
مرض صدري يقودها لحب الطيران
وُلدت ثريا الشاوي سنة 1936، في مدينة فاس المغربية، المتواجدة في وسط البلاد، وترعرعت وسط عائلة فنية، فوالدها عبد الواحد الشاوي كان يعتبر من بين أشهر رواد المسرح المغربي آنذاك، فيما امتهن أخوها الأكبر التمثيل في فرنسا.
وفي تلك الفترة، كانت الحماية الفرنسية تسيطر على العديد من المدن المغربية، وتتحكم في الكثير من القطاعات، التي كانت بعضها حكراً على الفرنسيين فقط.
عندما أتمت 3 سنوات، اتضح أن ثريا تعاني من مرض صدري، يسبب لها صعوبة في التنفس، الشيء الذي جعل والدها يأخذها إلى طبيب مختص من أجل تشخيص حالتها والوصول إلى علاج شافٍ.
وكانت نصيحة الطبيب هي قيامها بجولة في السماء بالطائرة، لعل تواجدها على ارتفاع عالٍ من سطح الأرض سيساعدها على تحسين وضعها الصحي.
حاول الأب جاهداً من أجل تحقيق هذا الأمر، وبعد جهد كبير، تمكن من الحصول على إذن للقيام بجولة في السماء، فحلقت ثريا للمرة الأولى في حياتها، وخلال الرحلة التي كان الهدف منها العلاج، وقعت الطفلة الصغيرة في حب الطيران، وقررت حينها أنها تريد الاشتغال في هذا المجال.
وعلى عكس الفتيات اللواتي ينجذبن للعب بالدمى، كانت ثريا تحب اللعب بكل ما له علاقة بالألعاب الميكانيكية، فكانت تمضي وقتاً طويلاً في فكها وتركيبها.
كما أن ثريا الشاوي تمكنت من أن تدرس على يد أستاذ خاص، كان يزورها في المنزل، من أجل تعليمها القراءة والكتابة، والعلم والأدب، في الوقت الذي كان فيه تعليم النساء غير شائع في المغرب.
درست الطيران في سن 15 واجتازت أصعب امتحان فتفوقت
عندما كانت ثريا الشاوي تبلغ من العمر 13 سنة، وفي سنة 1948، شاركت في أول عمل فني لها، رفقة والدها، من خلال الفيلم الفرنسي "la septieme porte" أو الباب السابع، للمخرج أندريه زوبادا.
وبعد سنتين فقط، قرر الأب تحقيق حلم طفلته الوحيدة في أن تصبح ربان طائرة، من خلال تسجيلها في مدرسة الطيران المتواجدة في منطقة "تيط مليل" نواحي مدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب.
لكن الأمر لم يكن سهلاً على الإطلاق، خصوصاً أن مدرسة الطيران هذه كانت حكراً على الفرنسيين والإسبان فقط، وكان كل من فيها رافضاً فكرة انضمام فتاة مغربية لهذا المجال، إلا أن الأب تمكن في الأخير من تحقيق مراد ابنته الصغيرة، التي كان عمرها 15 سنة فقط، وانتقل للعيش رفقة بقية عائلته في مدينة الدار البيضاء؛ ليكون قريباً منها خلال فترة التدريب.
بعد سنة واحدة من التدريب في مدرسة الطيران، والتي كانت صعبة على ثريا، بسبب المعاملة السيئة التي وجدتها من طرف زملائها، تمكنت من إجتياز إمتحان القيادة الطائرة سنة 1951، والذي كان صعباً جداً بسبب مصادفة الامتحان بطقس سيئ، لا ينصح بالطيران فيه من طرف المبتدئين.
حيث قطعت مسافة 40 كيلومتراً، في ارتفاع 3000 متر فوق سطح الأرض، محلقة بين مدينتي الدار البيضاء والرباط، العاصمة الإدارية للمغرب.
وبمناسبة اجتيازها الامتحان الصعب بنجاح، واعتبارها أول ربان طائرة امرأة تحصل على شهادة تخولها قيادة الطائرة، نظم النادي الجوي للأجنحة الشريفة حفلاً خاصاً على شرفها تقديراً لها.
استقبلها الملك محمد الخامس في القصر واحتفلت بعودته من المنفى
لم يمر حدث حصول ثريا الشاوي على شهادة طيران مرور الكرام، فقد عرف تغطية إعلامية كبيرة، وانتشرت صورها في الصحف المغربية والفرنسية، فتوصلت بالعديد من رسائل التهنئة، من شخصيات مهمة.
ومن بين الشخصيات التي تقدمت بالتهاني لأول ربان طائرة مغربية، كان المقاوم المغربي عبد الكريم الخطابي، والسياسي المغربي علال الفاسي، وربان الطائرة الفرنسية جاكلين أوريول.
كما أنها حصلت على دعوة خاصة لاستقبالها في القصر الملكي في الرباط، من طرف ملك المغرب آنذاك محمد الخامس، والأميرتين لالة عائشة، ولالة مليكة.
ولأن المغرب كان لا يزال في فترة الحماية الفرنسية، التي تم فيها نفي الملك محمد الخامس إلى مدغشقر سنة 1953، ونتج عنها ثورة الملك والشعب، التي كانت السبب في عودة الملك مجددا لحكم بلاده سنة 1955، عرفت ثريا بمواقفها الوطنية، ودفاعها عن وحدة البلاد واستقراره، بالرغم من سنها الصغيرة.
وكانت الشاوي قد شاركت في الاحتفالات بعودة محمد الخامس من المنفى، حيث قامت بقيادة طائرة من الحجم الصغير فوق سماء مدينتي الدار البيضاء والرباط، ونثرت العديد من الأوراق الملونة إلى أن وصلت فوق سماء القصر الملكي.
لكن بسبب هذه الرحلة الاحتفالية، تعرضت ثريا الشاوي لمرض في الرئتين، واضطرت للسفر إلى سويسرا عدة شهور، من أجل الخضوع للعلاج.
وبعد عودتها، أسست مدرسة الطيران العسكري المدني في المغرب، واختارت رمز الطيران المغربي، الذي ما زال معتمَداً من طرف الخطوط الجوية المغربية إلى الآن، كما أنها أصدرت رفقة وزارة التجهيز والنقل أول كتاب لتعلم الطيران باللغة العربية.
اغتيلت قبل يوم من استقلال المغرب
بالرغم من مسارها المشرف، ونجاحها المستمر في مجال الطيران، لكن ثريا لم تحصل على التصفيقات والتشجيعات فقط، لكنها كانت تتعرض للمحاربة ومحاولات اغتيال مستمرة، ابتداء من سنة 1954، وصولاً إلى سنة 1956، وهي السنة التي حصل فيها المغرب على الاستقلال من الحماية الفرنسية.
ففي سنة 1954، تعرضت لأول محاولة اغتيال وعائلتها من طرف مجموعة من الفرنسيين، بعدما وضعوا قنبلة أمام منزلها، وبالرغم من أن انفجارها وتسببها في خسائر مادية كبيرة، لكن لم يتعرض أحد منهم للأذى.
وفي نهاية نفس السنة، تعرضت لثاني عملية اغتيال، حيث حاول شخص مجهول قتلها بطلقات نارية، وصل عددها إلى 8 طلقات، عندما كانت في السيارة إلى جانب والدها، ونجت مرة أخرى بأعجوبة.
أما المحاولة الثالثة، فكانت من طرف شرطيين فرنسيين حاولا إطلاق النار عليها داخل سيارة والدها، لكن الناس احتشدت حولها، ومنعوهما من محاولة قتلها، كما أنها تعرضت لمحاولة اختطاف من طرف شرطيين فرنسيين آخرين، حاولا أيضاً إجبارها على مرافقتهما إلى مكان مجهول، لكن احتشاد الكثير من الناس حولها مرة أخرى أنقذ حياتها.
لكن لم تكن كل محاولات القتل هذه فاشلة، إذ تم اغتيالها يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني من سنة 1956، عندما كانت تبلغ من العمر 19 سنة فقط، وقبل يوم واحد من إعلان استقلال المغرب، من طرف شخص يُدعى أحمد الطويل، ينتمي إلى ميليشيات سرية موالية لفرنسا، بعد أن أفرغ مسدسه بالكامل في رأسها، وهرب تاركاً وراءه ثريا غارقة في دمائها.
وبالرغم من أن المغاربة كانوا ينتظرون الاحتفال باستقلال بلادهم بفارغ الصبر، فإن حادث وفاة ثريا الشاوي شكل صدمة كبيرة لهم، وتم تشييع جنازتها بحضور 60 ألف شخص، ودعوها إلى مثواها الأخير بدموع تملؤها الحسرة والألم.