حاول استصدار فتوى دينية تمنع مقاومة الفرنسيين! “ليون روش” الجاسوس الذي اخترق جيش الأمير عبد القادر الجزائري

عربي بوست
تم النشر: 2022/09/27 الساعة 11:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/27 الساعة 11:13 بتوقيت غرينتش
الجاسوس الفرنسي ليون روش الذي استطاع أن يخترق جيش الأمير عبد القادر الجزائري /wikipedia commons

شكّلت مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري في الفترة ما بين سنوات 1832م و1847م، عقبةً كبيرةً في وجه تقدم الجيش الفرنسي لاستكمال احتلاله الجزائر، فقد أنهك جيش الأمير الفرنسيين في معارك عديدة، وكبّدهم خسائر معتبرة في الأرواح.

ومن أجل القضاء على تلك المقاومة، انتهج الجيش الفرنسي جميع الطرق، فاستعمل سياسة الأرض المحروقة تارة، وسياسة المهادنة تارة أخرى، لكنّ أبرز الأساليب التي أثرت في مقاومة الأمير عبد القادر، حسب المؤرخين الجزائريين، كانت اختراق جيشه عبر الجاسوس الفرنسي ليون روش الذي كان يشتغل كاتباً خاصاً له.

قصة حبّ فتاة فاشلة تحوّل ليون روش إلى جاسوس

وُلد ليون روش في 27 سبتمبر/أيلول 1809، بمدينة غرونوبل الفرنسية، وهو ابنٌ لكل من ألفونس روش وكليمنتين شامبينوكس. بدأ دراسته في ثانوية غرونوبل، وحصل على شهادة البكالوريوس في عام 1828.

في الجامعة، درس ليون روش القانون بمسقط رأسه غرونوبل لمدة ستة أشهر. 

في سن 21 عاماً، سافر ليون روش إلى الجزائر، حيث كان والده قد اغتصب أرضاً من الجزائريين بسهل متيجة وحوّلها إلى مزرعة، وطلب مساعدة ابنه في استصلاحها، بحسب ما ينقله المؤرخ الجزائري يوسف مناصرية في كتابه "مهمة ليون روش في الجزائر والمغرب".

ليون روش
سقط ليون روش في غرام إحدى الفتيات الجزائريات ومن هناك بدأت قصته مع إختراق جيش الأمير عبد القادر/ wikipedia commons

أُعجب ليون روش بما وجده في الجزائر، فقد كان يعيش حياةً صعبة في فرنسا، خصوصاً بعد وفاة والدته. أصبح لروش في المستعمرة الفرنسية الجديدة بيتٌ ومزرعةٌ كبيرة لم يكن يحلم بها، فقرّر المكوث بها. 

اختلط روش بالجزائريين وسرعان ما بدأ في تعلّم اللغة العربية، وفي أحد الأيام وبينما كان روش في طريقه إلى مزرعة والده بسهل متيجة، لمحت عيناه فتاة جزائرية جميلة من عائلة أرستقراطية تدعى خديجة، وتبلغ من العمر 14 سنة، فوقع في غرامها.

أراد روش الزواج من خديجة، لكن أهلها رفضوا ذلك، بسبب جنسيته ودينه، وما أغاظ روش كثيراً، أنّ الشاب الذي تزوّج حبيبته كان أحد جنود جيش الأمير عبد القادر الذي كان يتّخذ من مدينة مليانة الجزائرية معقلاً له.

حسب "مذكرات ليون روش"، كان تأثير حرمان روش من الزواج من الفتاة الجزائرية حاسماً في حياته بالجزائر؛ ليشرع في الإعداد لمخطط من أجل الانتقام من حرمانه من الزواج من الفتاة خديجة.

بدأ روش في إخفاء كلّ ما قد يدلّ على أنّه شابٌ مسيحي، فبدأ بتعلّم اللغة العربية على يد شيخ جزائري اسمه عبد الرزاق بن بسيط حتى أتقنها، ثمّ قام بالاحتكاك المستمر بالعائلات الجزائرية الثرية وذات النفوذ السياسي، مثل عائلات "الداي" و"الأغوات"، ولم يلبث أن خالط الجزائريين في المقاهي وجلسات المحاكم الشرعية، حتى صار التعرّف عليه من بينهم صعباً.

توازياً مع ذلك، نسج روش عن طريق والده، علاقات كبيرة مع الإدارة الاستعمارية الفرنسية، فقد قدّمه أبوه سنة 1833 إلى الحاكم العام الفرنسي بالجزائر الدوق دي روفيقو الذي عيّنه ملازماً في فرقة سلاح الفرسان الخيّالة.

من ملازم في الجيش الفرنسي إلى لاجئ عند الأمير

شارك الملازم ليون روش في المعارك التي كانت تخوضها القوات الفرنسية ضدّ جيش الأمير عبد القادر، وهي المعارك التي سرعان ما كانت تنتهي بهزائم كبيرة للفرنسيين، حتى أذعن الجيش الفرنسي إلى التفاوض مع المقاوم الجزائري الأمير عبد القادر.

كان روش أحد المترجمين الذين شاركوا في مفاوضات التافنة سنة 1837م، بين الجنرال الفرنسي بوجو والأمير عبد القادر الجزائري، وذلك بسبب إتقانه الكبير للغة العربية، فكانت تلك المفاوضات أول لقاء بين الأمير عبد القادر والملازم ليون روش.

خلال تلك المعاهدة، وافقت فرنسا على أبرز شروط الأمير عبد القادر، والمتمثل في الاعتراف الفرنسي بسيادته على المناطق الغربية للجزائر دون المدن الساحلية، مقابل السماح للفرنسيين بالإقامة في مناطق هذه السيطرة.

ووفقاً لهذا الشرط، وبشكلٍ مفاجئ، قرّر ليون روش الهرب من جيش الاحتلال الفرنسي، واللجوء إلى الأمير عبد القادر على أمل أن يرى ويلتقي بحبيبته السابقة خديجة، بحسب ما يذكره في مذكراته.

وعند الأمير عبد القادر، تظاهر ليون روش بإسلامه، وقام بتغيير اسمه من ليون روش، إلى عمر.

في تلك الأثناء، وصلت إلى مسامع والده خبر إسلامه، فتوجّه إلى الأمير عبد القادر وتوسّل إلى ابنه العودة إلى مناطق سيطرة الجيش الفرنسي، ووعده بالعفو، لكن ليون روش رفض ذلك، بحسب ما نقله المؤرخ عبده علي عرفة في كتابه "أوروبيون في الحرمين الشريفين".

الأمير عبد القادر شكّل رقماً صعباً في مقاومة الجزائريين للاحتلال الفرنسي /wikipedia commons

بدأ روش في التقرب تدريجياً من الأمير عبد القادر، مستغلاً إتقانه اللغة الفرنسية، كما كان يكثر من كيل المدح والإعجاب بالأمير عبد القادر من أجل الفوز بثقته.

وبعد فترة قصيرة، صار ليون روش كاتباً خاصاً ومترجماً للأمير، هذه الوظيفة مكنته من الحصول على المعلومات والخطط، التي كان ينوي الأمير عبد القادر تنفيذها ضدّ الاحتلال الفرنسي والقبائل المناهضة لبيعته.

وسرعان ما قام روش بنقل هذه المعلومات إلى الجيش الفرنسي، وذلك عبر الفرنسيين المتواجدين في مناطق سيطرة الأمير عبد القادر. 

حملت إحدى رسائل روش إلى مسؤوليه الفرنسيين وصفاً دقيقاً للأمير عبد القادر وشخصيته، وختمها بأنّ الأمير عبد القادر رجلٌ عادلٌ يحترم تعاليم دينه، ويخضع له المسلمون بسبب احترامه لتعاليم الإسلام وسيره على نهج الخلفاء الراشدين.

تمكّن روش من إيصال معلومات هامة عن جيش الأمير للفرنسيين، في وقتٍ كانت تسري فيه الهدنة بين الطرفين بناءً على معاهدة التافنة السابقة الذكر. 

ولعلّ أخطر مهمة للجاسوس الفرنسي، كانت سرقة الخاتم الشخصي لمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، الذي استعمله روش في خداع القبائل المنضوية تحت لواء الأمير وذلك عبر كتابته للرسائل باسم الأمير عبد القادر.

ليون روش
استغل ليون روش وظيفته ككاتب خاص للأمير عبد القادر، قام بسرقة خاتمه الشخصي/ wikipedia commons

فكانّ روش سبباً في تأليب مريدي الطريقة الصوفية بمدينة عين ماضي ضد الأمير، متخذاً سياسة ضرب الجزائريين ببعضهم. 

في سنة 1839، نقض الجيش الفرنسي معاهدة التافنة مع الأمير عبد القادر، وعاد ميزان الحرب ليحكم العلاقات بين الطرفين.

بعدها حاصر جيش الأمير عبد القادر بلدة "عين مهدي" أربعة أشهر، وحين دخلوا إليها اكتشف روش أن حبيبته خديجة كانت من بين الضحايا الذين قتلهم الفرنسيين قبل الهروب من البلدة.

وسرعان ما انهار روش وحاول الانتحار، لكن الأمير عبد القادر أثناه عن ذلك، طالباً منه الاستعداد لحملة على الفرنسيين انتقاماً من قتلها.

وفي تلك اللحظة، انكشف أمر روش بعد أن ظهر أنه لا يستطيع رفع السلاح ضد وطنه فرنسا، فانهار مجدداً أمام الأمير واعترف له بأنّه تظاهر باعتناق الإسلام من أجل حبيبته التي ماتت الآن.

ومع ذلك، أخلى الأمير عبد القادر سبيله قائلًا له: "جزاؤك في الإسلام جزاء المرتدين.. لكنني أترك معاقبتك لله!".

عاد روش إلى الجيش الفرنسي، حيث سرّح رسمياً من الجيش الفرنسي بناءً على طلب والده، لكنّه استدعيّ إلى مهام استخباراتية أخرى، فمهمة روش في الجزائر لم تنتهِ مع تجسسه على الأمير عبد القادر، بل تعدتها إلى أخطر مهمة تهدد مستقبل مقاومة الجزائريين للاحتلال الفرنسي.

فتوى تحريم الجهاد ضد فرنسا.. مهمة ليون روش الأخطر 

كانت مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري المستمرة منذ سنة 1832م تؤرّق الاحتلال الفرنسي، وتكبده هزائم كبيرة، وبالرغم من مهمة ليون روش الأولى باختراق جيش الأمير، ونقل خططه الحربية فإنّ ذلك لم يكفِ للقضاء على مقاومته.

في سنة 1841م، تم تعيين الجنرال توماس بيجو حاكماً عاماً على الجزائر بعد أن كان يقود القوات الفرنسية، عزم هذا الأخير على القضاء على الأمير عبد القادر ومقاومته.

ومن أجل ذلك كلّف الجاسوس ليون روش بمهمة سريّة، تمثّل الضربة القاضية للأمير عبد القادر وعلى أية مقاوماتٍ شعبية تستند إلى الجهاد في ما بعد.

كانت تلك المهمة إرسال ليون روش إلى كلٍ من تونس، ومصر، والحجاز قصد التقاء علمائها وإصدار فتوى شرعية تبيح لمسلمي الجزائر العيش تحت الحكم الفرنسي دون اللجوء إلى فكرة الجهاد.

بدأت الفكرة حسب ما ينقله ليون روش في كتابه "اثنتان وثلاثون سنة في رحاب الإسلام"، حين التقى أقطاب الطريقة التيجانية الصوفية التي كانت تكنُّ العداء للأمير عبد القادر، وطلب منهم جمع بقية الطرق الصوفية المناوئة للأمير من أجل إصدار فتوى، تُبيح للاحتلال الفرنسي البقاء في الجزائر دون إلزام المسلمين بجهاده.

وتكفّل روش بعرض تلك الفتوى على علماء المسلمين في القيروان بتونس، والأزهر الشريف بمصر، والحرمين الشريفين للمصادقة عليها.

وبالفعل كتب روش بمعية الزاوية التجانية الفتوى، وتوجه برفقة بعض مساعديه من الطريقة إلى كل من تونس ومصر والحجاز للمصادقة على الفتوى من علماء المسلمين كي تكون حجة جامعة وقوية على الجزائريين المقاومين لفرنسا. 

الامير عبد القادر الجزائري / wikipedia commons

خلال رحلته تلك، يذكر المؤرخ الجزائري الراحل أبو القاسم سعد الله في كتابه "بحوث في التاريخ العربي الإسلامي"، أنّ ليون روش نزل بمصر قصد إقناع علماء الأزهر بالمصادقة على الفتوى، لكن الأزهر رفض المصادقة عليها، وطلب من روش الذي كان يختفي تحت اسمه المسلم عمر بن عبد الله الجزائري، ولباسه العربي الجزائري أن يتوجه إلى مجلس علماء مكة المكرمة للمصادقة على فتوى من هذا الحجم.

وصل روش إلى مكة، آخر محطاته من أجل استصدار الفتوى الشرعية القاضية بإباحة العيش للجزائريين تحت الحكم الفرنسي، لكن الحجاج الجزائريين استطاعوا أن يكشفوا أمر الجاسوس الفرنسي، الأمر الذي دفع روش إلى الهرب إلى فرنسا دون أن تكتمل مهمته كلياً. 

مهمة روش نجحت جزئياً في تبني بعض الطرق الصوفية للفتوى، وذلك بعد أن انتشرت بين المتصوّفة حينها مقولة إنّ "الاستعمار قضاء وقدر".

لم يمنع ذلك من قيام ثورات شعبية عديدة بعد انتهاء مقاومة الأمير عبد القادر سنة 1847، أبرزها ثورة الشيخ بوعمامة، وثورة بوشوشة بالصحراء الجزائرية.

تحوّل إلى دبلوماسي فرنسي 

بعد نجاحه في مهمته باختراق جيش الأمير عبد القادر، واستصدار فتوى من الطريقة التيجانية تبيح العيش مع الاحتلال، دخل روش بوابة الدبلوماسية بعد أن رُشّح من طرف الماريشال بيجو كمترجم فوري للخارجية الفرنسية في عام 1845، بحسب ما يذكره في مذكراته.

وفي عام 1846، أصبح سكرتيراً للمفوضية الفرنسية في طنجة بالمغرب.

ثمّ عيّن قنصلاً من الدرجة الأولى في ترييسته الإيطالية؛ مما أتاح له الحصول على خبرة قوية في الشؤون التجارية.

بعد ثلاثة أعوام سُمّي قنصلاً في طرابلس. وفي عام 1855 أصبح قنصلاً في تونس، قبل أن ينهي حياته سفيراً لفرنسا في اليابان، ويتوفى مطلع القرن العشرين.

تحميل المزيد