طوال فترة الحكم العثماني الممتد لثلاثة قرون، وقعت إيالة الجزائر فريسةً لعدة حملات عسكرية من مختلف الدول الأوروبية، التي أرادت أن توقف الجهاد البحري للبحارة الجزائريين على المتوسط.
وقبل أن تسقط في يد الإحتلال الفرنسي سنة 1830م، تعرضت الجزائر لعدة محاولات غزو من طرف البحرية البريطانية، أبرز تلك الحملات حملة اللورد إكسماوث سنة 1816م، حين قصفت البحرية البريطانية مدينة الجزائر.
بريطانيا كانت تريد غزو الجزائر منذ القرن السابع عشر
بدأ الصراع الحربي بين الجزائر وبريطانيا مبكراً، ففي سنة 1620م، شنت البحرية البريطانية أوّل هجومٍ لها على الأسطول العثماني الجزائري، لكنها فشلت في تحقيق أهداف ذلك الهجوم.
كانت أهداف بريطانيا من الهجوم على الجزائر، وقف التحرشات على السفن البريطانية العابرة للمتوسط، والامتناع عن دفع الرسوم التي يفرضها أسطول إيالة الجزائر العثمانية القوي.
وبعد تلك الحملة الفاشلة، أعادت بريطانيا الكرة بالهجوم على الجزائر مجدداً، من أجل تحقيق أهدافها بوقف ما تسميه القرصنة البحرية لسفنها بالمتوسط.
وفي كتابه "تاريخ الجزائر في القديم والحديث"، يعزو المؤرخ الجزائري مبارك الميلي أسباب هذه الحملة إلى استغلال بريطانيا للأوضاع الداخلية المتدهورة، التي كانت تعيشها السلطة العثمانية بالجزائر، إذ يقول في هذا الصدد: "يبدو أن الإنجليز أرادوا استغلال هذه الحركة الداخلية، فحاولوا الهجوم على الجزائر في خريف 1669م، لكن المدفعية الجزائرية نجحت في ردهم على أعقابهم".
استمرت تحرشات البحرية البريطانية بالجزائر؛ إذ يذكر الميلي بأنه في 9 مارس/آذار 1671، عاد الإنجليز إلى مهاجمة ميناء بجاية وأضرموا النار في 12 مركباً جزائرياً، كما هاجموا ميناء الجزائر في شهر يوليو/تموز من العام ذاته.
بعد تلك الهجمات، وقّعت الجزائر مع بريطانيا أوّل اتفاقية، كان ذلك عام 1682، بموجبها حدّدت الجزائر عدد المسافرين الأجانب على السفن الإنجليزية، كما احتفظ الأسطول الجزائري بـ300 قطعة بحرية بريطانية صغيرة، كان اغتنمتها من عمليات الجهاد البحري ضد السفن البريطانية، في الفترة ما بين عامَي 1672 و1682، مقابل عدم المساس بالسفن البريطانية أو طلب إذن بتفتيشها عند عبور المتوسط.
بعد هذه الاتفاقية، دخلت إيالة الجزائر العثمانية في هدنة مع بريطانيا. مع مطلع القرن الـ19م، أخذت العلاقات بين الطرفين في التأزم، وذلك بعد طلب داي الجزائر سنة 1803م من بريطانيا استبدال قنصلها في الجزائر، نتيجة خصامٍ وقع بين داي الجزائر وهذا القنصل، قبل أن تعود هذه العلاقات إلى الهدوء بعد حصول بريطانيا على امتياز صيد المرجان بسواحل القالة الجزائرية.
لم يدُم شهر العسل بين الجزائر وبريطانيا طويلاً، إذ سرعان ما أقنعت بريطانيا الدول الأوروبية بضرورة غزو الجزائر، من أجل وضع حد للجهاد البحري وتحرير الأسرى المسيحيين.
"حملة إكسماوث".. بريطانيا تقود تحالفاً أوروبياً لغزو الجزائر
في سنة 1815م، تمّ عقد "مؤتمر فيّينا"، وأسفر هذا المؤتمر عن بروز تحالف أوروبي ضد إيالة الجزائر العثمانية، هدف هذا التحالف إنهاء هيمنة أسطول الجزائر البحري على الحوض الغربي للمتوسط، وتحرير الأسرى المسيحيين لديها.
أخذت بريطانيا على عاتقها قيادة هذا التحالف، وتوجيه ضربة عسكرية لمدينة الجزائر.
في تلك الأثناء، كان صيادو المرجان البريطانيون يصطادون بشكل عادي المرجان في السواحل الشرقية للجزائر، إلّا أنهم قاموا في مايو/أيار 1816 باستفزاز سكان مدينة بونة أثناء أحتفالهم بأحد الأعياد المسيحية، فقام البحارة الجزائريون بالهجوم عليهم وأسر 800 شخص منهم.
استغل اللورد إكسماوث الذي كان يقود الأسطول البحري البريطاني هذه الحادثة، وقام في 27 أغسطس/آب عام 1816، وبمساعدة الأميرال الهولندي جون كابلان، بقيادة أسطولٍ مؤلفٍ من 39 بارجة إلى السواحل الجزائرية من أجل تحرير الأسرى المسيحيين.
وعند وصوله إلى مشارف الجزائر، قام اللورد إكسماوث برفع العلم الأبيض على سفن أسطوله، في إشارة إلى أنه لا ينوي الحرب، وإنما يريد التفاوض من أجل إطلاق سراح أسراه، بحسب ما نقله المؤرخ الأمريكي ويليام سبنسر في كتابه "الجزائر في عهد رياس البحر".
وقبل بدء الهجوم، أراد إكسماوث تحرير القنصل البريطاني وزوجته بالجزائر، عن طريق تهريبهم ليلاً إلى الأسطول البريطاني المحاصر لمدينة الجزائر، وذلك لضمان عدم تعرضهم للأذى عند بدء الهجوم، لكنه فشل، بعد أن قام داي الجزائر باعتقاله وإدخاله السجن.
بعث إكسماوث إلى داي الجزائر من أجل إطلاق سراح الأسرى الإنجليز في بونة، وإطلاق سراح القنصل الإنجليزي بالجزائر، وهدّد بالهجوم على مدينة الجزائر إن لم يتم إطلاقهم في ظرف ثلاث ساعات.
رفض الداي عمر تلك المطالب، معتمداً على تحصيناته الدفاعية لصد الهجوم البريطاني على مدينة الجزائر.
أعلن اللورد إكسماوث بعدها هجومه على مدينة الجزائر، فأطلقت مدافع سفنه أزيد من 51 ألف قذيفة على مدينة الجزائر خلال ساعات فقط، كما أنّها أحرقت 118 طناً من البارود، وتمكنت من تدمير جزئي لمدينة الجزائر، بحسب ما ذكره ويليام شلر، القنصل الأمريكي بالجزائر حينها، في مذكراته.
حملة إكسماوث تنجح في إذعان الجزائر لمطالب بريطانيا
وأمام الدمار الهائل الذي خلَّفه القصف البريطاني الذي استمر عدة ساعات على مدينة الجزائر، وافق داي الجزائر على طلب التفاوض مع اللورد إكسماوث.
كانت مطالب اللورد إكسماوث من داي الجزائر من أجل وقف الهجوم والتوقيع على الصلح؛ إطلاق سراح جميع الأسرى في بونة، وإعادة المبلغ الذي دفعه ملك نابولي وسردينيا فديةً لرعاياه، كما طلب التنازل عن حق الجزائر في استرقاق الأسرى المسيحيين، وهي الشروط التي قبِلَ بها داي الجزائر. كما اضطرت الجزائر بعدها إلى عقد معاهدة مع هولندا بنفس الشروط.
أدى قبول الداي عمر لشروط اللورد إكسماوث إلى غضبٍ كبيرٍ من عناصر البحرية الجزائرية، الذين اعتبروا تلك الاتفاقية مهينة لهم ولتاريخ الأسطول الجزائري، فلم تمضِ أيام حتى قَتل جنود البحرية الجزائرية الداي عمر؛ بسبب توقيعه على هذه الاتفاقية.
وأسهمت حملة إكسماوث في إضعاف الأسطول الجزائري، الذي كانت تعتمد عليه إيالة الجزائر العثمانية لحمايتها من الغزو، حتى تحطم كلياً أثناء مشاركته في معركة نافارين البحرية سنة 1827م، وبعدها سقطت الجزائر في يد الاحتلال الفرنسي.