منذ بزوغ الإمبراطورية الرومانية تحولت روما إلى ماكينة ضخمة لإنتاج العبيد؛ إذ قامت بغزو معظم شعوب البحر الأبيض المتوسط وحولتهم إلى عبيد. تحوَّل الفلاح الحر إلى عبد دون أية حقوق تذكر، ومن ثم إحالتهم إلى سوق النخاسة وبيعهم غنائم بشرية بأرخص الأثمنة، كانت تجارة العبيد تعد من أكثر موارد المال للإمبراطورية.
فحسب كتاب "شرائع البحر الأبيض المتوسط القديم" للروائي المصري فتحي إمبابي، فقد عانى المصريون القدامى -على سبيل المثال- خاصة خلال القرن الأول ميلادي، من الاختطافات الرومانية لأصحاب البشرة السمراء خصيصاً، قصد بيعهم عبيداً في روما.
وهو ما يعني أنّ دخول بعض الشعوب القديمة في حدود الإمبراطورية الرومانية لم يجعل منهم مواطنين رومانيين، بل انطبقت عليهم قاعدة إخضاع المنتصر للمهزوم، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: من هو المواطن الروماني إذاً؟ وكيف رأت الإمبراطورية الرومانية الشعوب المغلوبة التي قادها قدرها ووقعت تحت سطوتها؟ وكيف حولتهم إلى عبيد؟
"العرق" الروماني والعبيد
في البداية كانت شروط الحصول على المواطنة الرومانية مشابهة للشروط نفسها عند الإغريق، والتي كانت ترتكز على ثبوت "الرجال الأحرار"، أي أن يكون الرجل حراً من الولادة، بالإضافة إلى نشأته داخل الإمبراطورية الرومانية، كما يشترط عدم وجود أطفال غير شرعيين له من خارج نطاق الزواج أو الجواري.
مع توسع الإمبراطورية الرومانية تغيّر مفهوم المواطنة، وأصبحت تمنح لقلة قليلة جداً بالمقارنة مع شروطها في بداية الإمبراطورية. فعلى سبيل المثال رغم ثبوت الحرية يجب ثبوت حرية الآباء بأنّهم ذوو أصل روماني "غير مختلط"، كما قد يحظى الطفل المتبنى من قبل العائلات ذات الأصل الروماني بوثيقة ثبوت الجنسية الرومانية في ذلك الوقت.
أمّا بخصوص قاطني الأراضي الخاضعة للإمبراطورية الرومانية، فقد منحوا نوعاً خاصاً من المواطنة، ظلت في أقصى حدودها تدور حول حق الاحتفاظ بحكوماتهم الخاصة، لكنهم في الوقتِ ذاته، ظلوا محرومين من الحق السياسي، وهو حق ظل محصوراً على المواطنين رومانيي المولد داخل روما، وهو ما جعل مفهوم المواطنة لدى الرومان، مفهوماً مزدوجاً.
وحسب الكاتب الكندي ريتشارد بيلامي في كتابه "المواطنة.. مقدمة قصيرة جداً" فالمواطن الروماني ينقسم إلى 4 درجات، وهي كالتالي:
- المواطنة الكاملة.
- المواطنة بلا حق سياسي.
- المعتوقون.
- المواطنة بإمكانيات محدودة.
الدرجة الأولى: المواطنة الكاملة
يمنح المواطن من خلالها 4 حقوق رئيسية: الحق السياسي في الاقتراع والتصويت، وحق التوظيف والعمل الحر، وحق الزواج من حرة، وحق الدخول في تعاقد تجاري، كما يحميه القانون الروماني الذي كان يعنى بالملكية التجارية والعقارية.
الدرجة الثانية: المواطنة بلا حق سياسي
تمنح للمواطنين الأقل درجة من المواطن الروماني الحر المولد والنشأة، وفيها حرموا من ممارسة حقهم السياسي في التصويت والانتخاب، إلا أنهم منحوا الحق القانوني في الزواج بامرأة حرة والحق في التعاقد.
الدرجة الثالثة: المعتوقون
العتقاء بموجب القانون الروماني القديم يمنحون حق الاقتراع والتعاقد التجاري، إلا أنهم يحرمون من حق الزواج بامرأة حرة، كما منعوا من تولي المناصب العامة في الإمبراطورية الرومانية.
الدرجة الأخيرة: المواطنة بإمكانيات محدودة
حق كانت تمنحه روما لبعض المواطنين الأحرار من سكان المدن الأخرى في المستعمرات، وكانت تعطى كمنحة من الحكومة الرومانية لكبار الموظفين والقادة العسكريين الذي أبلوا بلاءً حسناً في خدمة الإمبراطورية الرومانية؛ إذ يمنحون بعض الحقوق ويمنع عنهم بعضها، كل حسب ما جاء بمنحة الحكومة خاصته.
قد تكونون لاحظتم عدم وجود أي رتبة تُعنَى بالعبيد، الإمبراطورية الرومانية القائمة بشكل كبير على العبيد والتجارة بهم كانت لا تعطي أية حقوق تذكر للعبيد باعتبارهم من الرعاة وأقل درجة من البقية الرومانيين.
أن تكون عبداً في روما تُمنع عنك الحياة
حسب غالبية الفلاسفة اليونانيين مثل أفلاطون وأرسطو وغيرهما، كانت تجارة الرق من الأشياء العادية والتي تباهى بها الرومانيون، حيث كان من الأساسيات في البيت الروماني وعلامة للنبل وصفاء العرق، حيث كان من الركائز الأساسية في التجارة، وذلك بدعمهم للكيان الاقتصادي للإمبراطورية.
الهيكل الطبقي للإمبراطورية تأسس على تشريعات وفوارق طبقية كانت آخرها مرتبة العبيد التي لا تملك أي حق داخل الإمبراطورية، حيث يمكن اختزال الهرم الطبقي في شريحتين فقط: الأحرار والعبيد.
في روما تحديداً كان العبيد هم قوة العمل الرئيسية، حيث كانوا هم الركيزة الأساسية في بناء الإمبراطورية، حيث احتل العبيد المركز الخامس بعد المراكز الأربعة التي سبق ذكرها، حيث كانت شيئاً عادياً في المجتمع الروماني الذي اشتهر بالحروب والغزوات، كان من قواعد الحروب أن كل من يقع في الأسر يفقد حقه في الحياة، ولتخفيف الحكم بالموت جراء الأسر كانوا يساقون عبيداً للمدن الرومانية المختلفة.
بالإضافة إلى أسرى الحروب وأولادهم، فقد كان الرومان يحصلون على الرقيق من خلال أخذ أولاد الأحرار الذين حكم عليهم القانون بسبب تعثر مادي، حسب ما ذكر الكاتب الأردني إبراهيم إبداح في كتابه "أسياد العبودية"، بالإضافة إلى كل ما سبق كان الرومان يسرقون الأطفال والنساء قصد بيعهم في مزاد علني بأسعار زهيدة، كما كان العبد يفحص عارياً لضمان عدم وجود أي تشوه خلقي في جسده.
القانون الروماني اعتبر العبيد من دون شخصية، أو كما سموه في كتاباتهم "إنساناً غير شخصي"، وطبقاً لهذه المواصفات لم يكن لديهم أية حقوق مدنية أو قانونية، كما كانوا يعدون كمتاع شخصي، كما تسلب منه جميع ممتلكاته لصالح سيده.
أما بخصوص توريث الرق، فغالباً ما كان يجري من جانب النساء، فإذا كانت الأم حرة اكتسب الأولاد حريتهم، أما في حال كانت الأم أَمة فالأولاد بدورهم عبيد حسب القانون الروماني. كما لا يجرم القانون في الإمبراطورية الرومانية قتل العبيد من قبل أسيادهم، حيث كانت مشاهدة العبيد المصلوبين على جذوع الأشجار من الأشياء الشائعة في الإمبراطورية قديماً.
موتى أحياء في روما
لا يحرم العبيد في روما من الملكية والتملك فقط، بل من أبسط حقوق الحياة كالزواج الشرعي مثلاً، حيث كان العبد لا يرث ولا يورث، ويعد أبناؤه غير شرعيين، كما من حق سيده بيعه أو سجنه وكيه بالنار أو حتى قتله أو صلبه، وهي عقوبات كان يجري تنفيذها إزاء جرائم بسيطة مثل سرقة أشياء دون قيمة.
ومن القوانين الغريبة المطبقة في روما القديمة أنه بإمكان المالك أن يمارس الجنس مع عبده، وإذا قُتل السيد يُقتل معه كل عبيده وجواريه، حسب كتاب فتحي إمبابي، إذ كان يخلو المجتمع الروماني من الرحمة.
وصلت القسوة في التعامل مع العبيد في استخدامهم وسيلةً للمتعة والفرجة، حيث كان يجبر العبيد على المبارزة داخل مبانٍ خاصة تسمى بزابيون، سواء فيما بينهم أو مع حيوانات مفترسة، حتى يهزم أحدهم على يد الآخر فتنتهي المبارزة، بالإضافة إلى إلزامهم بالوقوف أمام سيدهم أثناء تناوله الطعام، ولا يسمح بصدور أي صوت أو حتى العطس، أما في حال سعل أو عطس أحدهم كان يجلد حتى يأمر سيده بالتوقف أو يلقى حتفه جراء الجلد.
انتفاضات عديدة والكابوس واحد
نتيجة المعاملة القاسية، اندلعت العديد من انتفاضات العبيد في صقلية وبعض المدن الإيطالية وفي روما نفسها، ما عرف باسم حروب العبيد الرومانية الثلاث التي وقعت في أعوام 135ق.م، و104ق.م، و73ق.م.
كانت أخطر الانتفاضات على الإطلاق تلك الأخيرة التي عرفت بحرب العبيد الثالثة تحت قيادة سبارتاكوس عام 73ق.م، وكادت أن تقضي على روما نفسها، لولا فيالق القادة كراسوس وبومبي التي تمكنت من القضاء على الثورة.
"عقدة المنتصر" من شعوب مغلوبة إلى عبيد
مما أخذه الرومان عن الإغريق، هو رؤيتهم لكل ما هو غير يوناني على أنه بربري متوحش، وقد كان المتوحش في العرف اليوناني هو كل من ليس يونانياً، علاوة على أنهم يرون أن لهم حق الإمرة على المتوحش والعبد على السواء.
هذا التمييز الذي انتقل إلى أعراف الإمبراطورية الرومانية، كما ورد في كتاب "شرائع البحر الأبيض المتوسط القديم"، وكانت الشعوب المغلوبة في الحروب الرومانية من ضمن من دخلوا في نطاق البرابرة والوحوش.
واعتمدت الإمبراطورية الرومانية 3 دوائر قانونية: الأولى مدينة روما وما حولها، والثانية المدن والولايات الإيطالية، أما الثالثة فكانت للشعوب المستعمرة، الذين طبقت عليهم شريعة المنتصر، ولم يملك المغلوب قانوناً أو شرعاً أو حتى عرفاً.
قانون الأمم والخفايا أعظم
وضعت روما قانوناً جديداً سمي بقانون الأمم، الذي شمل تعيين قضاة في الأقاليم المقهورة، مهمتهم التوفيق ما بين القانون الروماني والقانون المحلي للإقليم، الأمر الذي كان ينتهي بالطبع لصالح الرومان.
وكان الغرض من وضع القانون أن يشكل المبادئ القانونية التي يفرض بها المنتصر سلطانه وسطوته بصورة واضحة على المغلوب، وذلك على الرغم من إظهار هذا القانون بمظهر القانون العام الذي يشمل الأمم جميعها، وكان الهدف الخفي وراءه، تكييف القوانين المحلية من أجل ترسيخ السيادة الرومانية.
ولم يتجاوز الأمر سوى مراعاة بعض العادات والآداب العامة، ووضع قواعد الحماية المتبادلة للتجار والدبلوماسيين، لحماية مصالح الإمبراطورية الرومانية، ويقول إمبابي: "أما الشعوب المغلوبة، فقد وضعتهم روما في مرتبة لا تعلو مرتبة الحيوانات"، مشيراً إلى أن الأمر كان ينتهي دائماً بالتقليل من شأن الشعوب المغلوبة وتحقيرها.
كما تمكنت روما من خلال قانون الأمم من التحكم في الشعوب والولايات من دون أن تعطي لأهلها حق المواطنة الرومانية، وغير ذلك من الحقوق المدنية، لم يؤمن الرومان بأن من حق غيرهم التمتع بالحقوق ذاتها التي يتمتعون بها إلا في عصور متأخرة، وقد جاء ذلك متأثراً إلى حد كبير بالفلسفة الرواقية.