في صباح الخامس من يوليو/تموز 1943، حاول أدولف هتلر الثأر من هزيمته المدوية في معركة ستالينغراد، وذلك بشنِّ عملية عسكرية في مدينة كورسك بالأراضي السوفييتية، أطلق النازيون على تلك العملية اسم "عملية القلعة".
كانت ترسانة الجيش الألماني تضمُّ 900 ألف جندي و2700 دبابة، إضافة إلى ألفي طائرة، أمّا الجانب السوفييتي فحشد مليوناً و300 ألف جندي و3600 دبابة مدعومة بتغطية جوية من 2650 طائرة.
خلال معركة كورسك قُتل نحو مليون جندي، 800 ألف منهم من الجيش السوفييتي، وخسرت ألمانيا أسطولها من الدبابات، كما خسرت آخر معاركها في الجبهة الشرقية.
كورسك.. القرية الاستراتيجية التي حاول هتلر احتلالها
لا يمكن الحديث عن معركة كورسك دون التطرق إلى معركة ستالينغراد، التي تكبّدت فيها ألمانيا خسارة فادحة.
فمع حلول يونيو/حزيران 1942، كانت جيوش هتلر قد تقدَّمت باتجاه الشرق، مستهدفةً السيطرة على مدينة ستالينجراد الاستراتيجية، لكن الزعيم السوفييتي ستالين، الذي تحمل المدينة اسمه، حشد كل قواته للدفاع عن المدينة.
أسهم فصل الشتاء القارس، والمقاومة الشجاعة للسوفييت، في توقُّف زحف قوات الفيرماخت الألمانية، وتلقَّى هتلر هزيمة مدوية في معركة ستالينغراد، التي انتهت في فبراير/شباط 1943، وتحوّلت وضعية ألمانيا النازية من الهجوم إلى الدفاع.
أمام التحوّل الاستراتيجي الذي خلّفته نتائج معركة ستالينغراد، برزت منطقة "كورسك" الروسية كإحدى أهم المناطق الاستراتيجية لألمانيا، من أجل السيطرة على السكك الحديدية والطرق في كورسك، ومنها للسيطرة على الجبهة الشرقية.
في مارس/آذار 1943، بدأت خطط الفيرماخت الألماني السيطرة على مدينة كورسك، فبعد نجاحها في هزيمة السوفييت في بيلغورود وخاركوف بالقرب من جنوب كورسك، أراد المشير الألماني إريك فون مانشتاين الاستفادة من الحالة المنهكة للجيش السوفييتي ومحاولة الاستيلاء على كورسك.
مليونا جندي من أجل خوض معركة كورسك
خلال الأسابيع القليلة المقبلة، حشدت ألمانيا أكثر من 900 ألف جندي و2700 دبابة و2500 طائرة لشن هجوم على كورسك.
أدرك ستالين مخططات هتلر في استهداف مدينة كورسك، فقام الجيش الأحمر السوفييتي بحشد ترسانة عسكرية ضخمة لصد هجوم قوات الفيرماخت.
كانت ترسانة الجيش الأحمر تتكون من مليون و300 ألف مقاتل و3600 دبابة، و2650 طائرة وخمسة جيوش ميدانية احتياطية من نصف مليون رجل آخر و1500 دبابة إضافية.
في البداية، أطبق الجيش الألماني حصاراً على مدينة كورسك، ففي شمال كورسك كان الجيش الألماني التاسع، المكون من ثلاث فرق بانزر وأكثر من 300 ألف جندي، وفي الجنوب تَمركز جيش بانزر الرابع، مع أكثر من 300 ألف جندي ومجموعة من دبابات النمر ودبابات النمر. أمّا الغرب فكان محاصراً بالجيش الألماني الثاني بحوالي 110 آلاف مقاتل.
تأجيل المعركة.. خطأ هتلر الذي خسر به المعركة قبل أن تبدأ
بحسب تقرير لموقع history، حذَّر بعض الجنرالات المقربة من هتلر من استمرار عملية القلعة، بسبب التحصينات الكبيرة للجيش الأحمر السوفييتي، لكن هتلر كان مصراً على تلك المعركة.
كان التاريخ الأوّل الذي وضعه الألمان لبدء الهجوم على كورسك هو 3 مايو/أيّار، لكن هتلر اختار انتظار الطقس وتسليم دبابات جديدة من نوع "Tiger"، لإشراكها في المعركة، لذلك قرَّر هتلر تأجيل البدء في الهجوم شهراً كامل.
استغل السوفييت تأجيل هتلر لبدء المعركة، من خلال تعزيز مناطقهم الدفاعية حول كورسك، كما قام الجيش الأحمر بتفخيخ محيط المدينة بالألغام المضادة للدبابات، ووضع أفخاخ من الأسلاك الشائكة للجنود المشاة، إضافة إلى زرع مليون لغم مضاد للأفراد في المدينة، كما قام السوفييت أيضاً بحفر شبكة واسعة من الخنادق تمتد على طول 2500 ميل.
وما زاد من تأزيم وضع الألمان خلال تلك المعركة نجاح المخابرات البريطانية في تفكيك شفرة فيرماخت الألمانية، ونقل المعلومات الاستخباراتية بانتظام إلى السوفييت، فقد عرف السوفييت أن الألمان قادمون إلى كورسك، وكان لديهم متسع من الوقت للاستعداد للمعركة.
وفي الخامس من يوليو/تموز 1943، بدأ جيش الفيرماخت هجومه على كورسك من كل الجهات.
هزيمة لهتلر في بروخوروفكا وإنزال الحلفاء في صقلية حسم معركة كورسك
في محور الجنوب كان الجيش الألماني يحقق انتصارات على الجيش الأحمر، ويشقّ طريقه إلى قرية بروخوروفكا الصغيرة، التي تبعد حوالي 50 ميلاً جنوب شرق كورسك.
في 12 يوليو/تموز، اندلعت بضواحي بروخوروفكا مواجهة عنيفة بين الجيشين الألماني والسوفييتي، اشتبكت فيها دبابات جيش الحرس الخامس السوفييتي مع دبابات فيلق البانزر الثاني الألماني، في معركة سُميت بالمدينة السوفييتية بروخوروفكا، ويعتبرها العديد من المؤرخين أكبر حربٍ أستعملت فيها الدبابات خلال التاريخ الحديث.
ورغم خسائرهم الفادحة في تلك المعركة استطاع السوفييت منع الدبابات الألمانية من احتلال بلدة بروخوروفكا الحيوية، والتي كان احتلالُها ضرورياً من أجل التقدم من اتجاه الجنوب نحو كورسك.
بعد نكسة بروخوروفكا تلقى الألمان صفعة ثانية، هذه المرة كانت بعيدة عن المدينة السوفييتية، لكنها أثرت بشكل مباشر في مجريات معركة الألمان لاحتلال كورسك.
ففي الوقت الذي كان فيه الألمان مُنشغلين في معركة بروخوروفكا، قامت قوات الحلفاء بإنزال على شواطئ صقلية الإيطالية، الأمر الذي دفع هتلر إلى التخلي عن عملية القلعة لاحتلال كورسك، وقام بتوجيه فرق بانزر الألمانية إلى إيطاليا لإحباط عمليات إنزال الحلفاء تلك.
قلبت تلك التطورات المعركة رأساً على عقب، وقام السوفييت بشنّ هجومٍ مضاد، أطلق عليه "عملية كوتوزوف"، وذلك بحشد ثلاثة جيوش كبرى لشن ذلك الهجوم المضاد الكاسح.
وبحلول 24 يوليو/تموز، انسحب الألمان إلى النقطة الأولى التي بدأوا منها هجومهم على كورسك.
كانت تكلفة معركة كورسك باهظة للطرفين، فقتل نحو مليون جندي في المعركة التي استمرت 50 يوماً، فقد خسر الاتحاد السوفييتي نحو 800 ألف جندي من جنوده، بينما فقد الألمان في المعركة نحو 200 ألف قتيل.
رغم ذلك انتصر السوفييت في معركة كورسك، وتلقى الألمان هزيمة كبيرة حوّلتهم إلى نقطة الدفاع، بعد أشهر من لعب دور الهجوم.
في صيف عام 1944 أطلق السوفييت عملية باغراتيون ضد الألمان، انهارت الجبهة الألمانية خلال تلك الحملة، وفي غضون خمسة أسابيع فقط تقدم الروس أكثر من 435 ميلاً إلى ضواحي وارسو، وبعد ثمانية أشهر كانوا على أبواب برلين لإسقاط هتلر.