خلّفت الحرب العالمية الثانية قصصاً مروعة، وأخرى مشوّقة، لكن قصة الهروب الكبير الذي نفذته مجموعة من الطيارين التابعين لقوات الحلفاء سنة 1944، جمعت بين التشويق والرعب، فقد كتبت تلك الحادثة النجاة لثلاثة أشخاص فقط من أصل 76 هارباً.
الألمان يشيّدون سجناً خاصاً بأسرى القوات الجوية للحلفاء
خلال الحرب العالمية الثانية سقط ملايين الجنود في الأسر، ومن أجل تنظيم عمليات الأسر عملت ألمانيا النازية على مخططٍ، يُفضي بأنّ كل فرع من فروع الجيش مسؤولٌ عن أسرى الحرب من الفروع المماثلة للعدو.
فكان مشاة الحلفاء يُؤسرون في سجون تابعة للمشاة النازيين، والجنود العاملون في البحرية يُؤسرون في معسكرات تابعة للبحرية الألمانية.
اختصت القوات الجوية النازية بأسر طياري الحلفاء، ومن أجل ذلك شيَّدت سنة 1942 معسكراً شديد الحراسة، على بعد 100 ميل جنوب شرقي برلين، باسم "شتالاج لوفت الثالث".
تمّ بناء المعسكر الجديد بتفاصيل تمنع محاولات هروب السجناء، فتمّ رفع غرف السجناء عن الأرض، بالإضافة إلى ذلك تم بناء المخيم فوق رمال صفراء يَصعبُ اختراقها وإخفاؤها من قبل أي شخص يحاول الهرب.
ومع ذلك لم يأخذ النازيون في الحسبان جرأة وإبداع الطيارين في هذا المعسكر، وكان الطيارون المسجونون في معسكر شتالاج لوفت الثالث من جنسيات بريطانية وكندية وأمريكية، وغيرهم من أفراد طيران الحلفاء الذين كان عددهم نحو 600 طيار.
شجَّعت اتفاقية جنيف التي وَقَّعت عليها ألمانيا بمعية الدول الأوروبية، والتي تنص على أنّ عقوبة محاولة الهروب من السجن هي الحبس الانفرادي لمدة عشرة أيام فقط، شجعت طيّاري التحالف على المخاطرة من أجل الهرب، فرأوا أنّ العيش بحرية لا يُقارن بالبقاء عشرة أيّام في السجن الانفرادي في حال باءت المحاولة بالفشل.
حفروا 3 أنفاق بطول 300 قدم في عام كامل ليهربوا من نفق واحد
حسب موقع "royal air force" استمرت عمليات الحفر نحو 15 شهراً، شارك فيها أكثر من 600 أسير، تحت قيادة ضابط سلاح الجو الملكي البريطاني روجر بوشيل، الذي أُطلق عليه اسم "Big X"، وكان صاحب خطة الهروب الكبير تلك.
وضع الضابط البريطاني خطةً مُحكمةً للهرب، تعتمد على حفر ثلاثة أنفاق بطول 300 قدم، وبعمق 30 قدماً لكل نفق، وأطلقت تسمية "توم" و"ديك" و"هاري" على الأنفاق الثلاثة.
ارتكزت خطة بوشيل على أنّه إذا كشف جنود الألمان أحد الأنفاق فلن يشكوا في النفقين المتبقيين.
استعمل السجناء لحفر الأنفاق الثلاثة كلّ ما من شأنه أن يفي بالغرض، فقد استخدموا نحو 2279 من السكاكين والشوك والملاعق في الحفر، ونحو 4 آلاف لوح سريري لتقوية جدران الأنفاق، كما تم تحويل 1400 علبة حليب إلى قنوات تهوية لضخ الهواء في الأنفاق الثلاثة.
كما تفادى العاملون في الحفر ارتداء ملابسهم أثناء العمل، لكي لا تلتصق بها الرمال ويتم كشف أمرهم.
كانت الخُطة حسب موقع "history" المتخصّص في التاريخ تتمثل في تهريب 200 أسير فقط، من أصل 600 أسير في المعسكر، لذلك وضع روجر بوشيل معايير لاختيار من يرافقه إلى نفق الحرية.
تم اختيار جزءٍ ممَّن يتمتعون بمهارات في اللغة الألمانية، وجزء من الذين عملوا بجدٍّ في عملية الإعداد، واختير البقية عن طريق القرعة.
ومثلما توقَّع روجر بوشيل، تمّ كشف أحد الأنفاق من طرف الجنود الألمان، وهو نفق"توم"، وفرح الألمان باكتشافهم للنفق، لكنهم لم يكونوا على دراية بأن عمل السجناء على النفقين "ديك" و"هاري" مستمر.
حوَّل السجناء نفق "ديك" إلى مساحة تخزين للرمال، وركزوا كل أعمال البناء على النفق "هاري"، حتى اكتمل حفره في شهر مارس/آذار عام 1944.
وفي ليلتَيْ 24 و25 مارس/آذار عام 1944، شرع الضابط البريطاني روجر بوشيل في إنجاز خطته للهرب، وكانت الخطة أن يمرَّ عشرة سجناء عبر النفق "هاري" كل ساعة، انطلاقاً من الغرفة 104 التي تقع فيها فوهة هذا النفق.
لكنّ حدثت مُفاجأةً لم تكن في حسبان أسرى سجن "شتالاج لوفت الثالث"، حيث اكتشف أولُ أسير يمرّ عبر النفق أنّ فتحة النفق تقع على بعد 10 أقدام من الغابة، وعلى مرأى من الجنود الألمان في برج الحراسة.
استطاع الطيارون الهاربون أن يحلوا تلك المشكلة، بتصميم نظام سحب الحبل، للإشارة إلى الوقت الذي يكون فيه الخروج آمناً، بحيث يقوم كلّ أسير بالتنبيه على عدم رؤية الجنود الألمان فوهة النفق للأسير الذي يأتي بعده، وذلك عبر شد حبلٍ وُضع على طول المسافة، التي اضطرّ السجناء إلى قطعها للوصول إلى الغابة.
نجح 76 طياراً من الأسرى في الهرب إلى خارج السجن، وعندما كان الأسير رقم 76 يزحف نحو الغابة تم كشفه من طرف حارس ألماني.
انطلقت دوريات الشرطة الألمانية في تمشيط الغابة، لتتمكن بعد أسبوعين من البحث من استعادة 73 سجيناً من السجناء الفارّين، من بينهم المخطط للعملية، و أمر بعدها هتلر شخصياً بإطلاق النار على خمسين أسيراً منهم.
بينما استطاع ثلاثة أسرى فقط الوصول إلى خارج ألمانيا النازية، اثنان منهم نرويجيان، تمكنا من الهرب على متن سفينة شحن إلى السويد، والآخر هولندي وصل إلى جبل طارق بالسكك الحديدية والمشي على الأقدام.
تم تجسيد قصة الهروب الكبير هذه في فيلم أمريكي صدر سنة 1963، بعنوان "The Great Escape". الفيلم من إخراج وكتابة جون ستورجس، وبطولة كل من ستيف ماكوين، وجيمس جارنر، وريتشارد أتنبور، وشارلز برونسون، وجيمس دونالد، وجيمس كوبيرن.