"ينبغي أن يكون الوقت المخصص للمرافعات عادلاً للجميع، ومن الضروري ألا تقبل الشهادة إلا من عند أشخاص لا يرتقي الشك إلى أخلاقهم"، و"على رجال القانون المحيطين بالملك ألا يقبلوا بالرشاوى، لا قبل المحاكمة ولا بعدها"، كما أنه "من غير الوارد قبول هدايا من لدن المشتكين".
قائل هذه السطور هو السلطان "سونغاي أسكيا محمد"، الملقب بـ"أسكيا الأكبر"، حاكم سلطنة سونغاي الاسلامية، غرب الساحل الإفريقي في نهاية القرن الـ15، والتي كانت واحدة من أكثر البقاع الإسلامية ازدهاراً على مر التاريخ.
تلك المقولة موجودة في إحدى "مخطوطات تمبكتو" بالإضافة إلى حوالي 400 ألف مخطوطة لمئات المؤلفين في علوم القرآن والرياضيات وعلم الفلك والتنجيم، ضمن وثائق تاريخية مهمة تمثل جزءاً أساسياً من الإرث الإنساني والعربي والاسلامي للمعرفة المكتوبة.
ولم تكن "مخطوطات تمبكتو" القيمة، لتنجو اليوم، وتتم أرشفتها من قبل أشهر المؤسسات العالمية مثل اليونسكو ودراسة محتوياتها من قبل جامعات أوربية، لولا المجهود الشخصي لسكان مدينة تمبكتو الذين حافظوا عليها من الاندثار في زمن الاحتلال الفرنسي أو من النهب في الوقت الحالي.
مدينة تمبكتو مدينة العلوم في إفريقيا
تقع تمبكتو على طريق تجاري قديم شهد مقايضة الملح المستخلص من الشمال الإفريقي بالذهب والعبيد من إفريقيا السوداء بالجنوب، ومن الروايات المتداولة أن اسم تمبكتو يعني بئر بكتو، وهي عجوز طارقية نُسب إليها المكان، الذي استقرت فيه قبائل طارقية متعددة، كانت تجعله في الماضي ممراً في رحلتها بين الصيف والشتاء.
كانت "مدينة تمبكتو" مع "ولاتة" و"شنقيط" في موريتانيا أهم عواصم الإسلام ومحطات القوافل في غرب إفريقيا، وذلك خلال سير القوافل المحملة بالتمور والملح والقماش والكتب والذهب والحرير وريش النعام وغيرها من بضائع الصحراء في تلك الفترة.
وازدهرت المدينة في القرن الـ16 كمنارة إسلامية للعلم وموطن لرجال الدين والقضاء والمؤلفين.
وأصبحت المدينة حينها مركزاً نابضاً بالحياة ومركزاً للتجارة والعلم والمعرفة والتصوف، وكان يطلق عليها "مدينة الأولياء الصالحين الـ333″.
وفي كتابه "وصف إفريقيا" المنشور عام 1550، يتعجب الرحالة الإيطالي "ليو أفريكانوس" من أنه في أسواق تمبكتو النشطة، تحت مآذن مساجدها الفخمة، كان أغنى التجار يبيعون الكتب، وكانوا يبيعون المخطوطات التي كتبها العلماء العرب في كل شيء من علم الفلك والرياضيات إلى قوانين الشريعة الإسلامية، وأيضاً النصوص الدينية.
واشتهرت تمبكتو إلى جانب كونها مدينة تجارية، بكونها مدينة العلم حيث كان عدد سكانها 100 ألف، كان الكثير منهم من المؤلفين وطلاب العلم.
وتوالت عليها السلالات الحاكمة لكنها بقيت محافظة على وضعها في أغلب الوقت، حتى دخول الاستعمار الفرنسي مع نهاية القرن الـ18، فقاومه السكان مقاومة عنيفة، بقيادة الزعيم "محمد علي الأنصاري" الملقب بـ"أنقونا" الذي استشهد سنة 1897 في مواجهة نيران الغزاة الفرنسيين.
الاحتلال الفرنسي وسرقة مخطوطات تمبكتو
عانت تمبكتو وسكانها خلال حكم الاحتلال الفرنسي من بطش ووحشية الجنود الفرنسيين الذين استهدفوا روح المقاومة القوية التي أظهرها سكان المدينة بوجه الغزو الأجنبي، كما استهدف الفرنسيون المكتبات ودور المخطوطات، فسرقوا كثيراً من الآثار الإسلامية في المدينة ومخطوطات تمبكتو، ونقلوها إلى المكتبات الفرنسية.
وبسبب الاحتلال الفرنسي، فإن أغلب المتعلمين في مالي كانوا يدرسون بالفرنسية ولا يجيدون العربية، وبالتالي تم تجاهل المخطوطات من قبل الشريحة المتعلمة في البلد.
لكن بعض العوائل من سكان المدينة أخفت ما يمكنها من المخطوطات بعيداً عن أعين الفرنسيين، وحافظوا عليها من الضياع وحين تخلصت مالي من الاحتلال الفرنسي في 1960، استطاعت تلك العوائل عرض تلك المخطوطات علناً في مكتبات خاصة.
ضمت تلك المكتبات حوالي 400 ألف مخطوطة للعلوم والنصوص الدينية المكتوبة باللغة العربية ولغات محلية أخرى أغلبها كتبت بالحرف العربي.
"مخطوطات تمبكتو" إرث إنساني عمرها مئات السنين
شهدت تمبكتو خلال العقود اللاحقة إقبالاً من السياح الغربيين، بسبب حالة تهويل إعلامية استغلتها مكاتب السياحة الغربية لتظهر المدينة بأنها مدينة العجائب.
ونظراً لكثرة الإقبال على المدينة التاريخية، أقيم أول مطار في المدينة منتصف التسعينيات، ليرفع من القدرات السياحية في المدينة، التي احتضنت أيضاً فنادق عصرية متعددة، ليتم لاحقاً تسليط الضوء على تلك المخطوطات ومحتوياتها.
واعترافاً بأهمية تمبكتو باعتبارها موقعاً للعمارة الإفريقية وماضيها العلمي والمعرفي، أعلنت منظمة اليونسكو عام 1990 مدينة "تمبكتو" موقعاً من مواقع التراث العالمي.
وأطلق مشروع "مخطوطات جنوب إفريقيا – مالي" بشكل رسمي عام 2003، الذي قام بإنجازات كبيرة كان أهمها مبنى المكتبة الأرشيفية الجديدة الذي تم تدشينه في تمبكتو في يناير/كانون الثاني عام 2009، للمحافظة على المخطوطات بشكل صحيح.
وقامت شركة جوجل أيضاً بأرشفة أكثر من 40 ألف وثيقة من "مخطوطات تمبكتو" بشكل رقمي، أما النسخ الأصلية فهي كنز حقيقي لا يقدر بثمن، فبعض مخطوطات تمبكتو مكتوبة بماء الذهب، كتلك الموجودة بـ"مكتبة الإمام السيوطي"، إحدى أهم المكتبات في تمبكتو.
وتضم مخطوطات قيمة منها نسخة من القرآن الكريم يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر، مكتوبة بالذهب الخالص وهي نسخة نادرة جداً، كما أن أقدم المخطوطات في هذه المكتبة يعود تاريخها إلى القرن الـ12.
إضافة إلى مخطوط نادر في علم الفلك يشرح حالة الخسوف والكسوف، وحركة دوران الأرض حول الشمس، إلى جانب مخطوطات أخرى تتناول الرياضيات والتاريخ والطب والفلسفة،وعدداً كبيراً من المخطوطات التي تغطي موضوعات تتراوح من الفلسفة إلى الاقتصاد، والطب والزراعة، وعلم الفلك والرياضيات والدين، بالإضافة إلى الكشف عن كيفية تفسير المفكرين للبيئة السياسية والاجتماعية، فإنهم يصفون أيضاً الحياة اليومية، مثل كيفية علاج الأمراض والتجارة.