يُرافق كل استعمار أصوات رافضة له، منها ما ينبعث من دولة المُستعمر نفسه، وهو الحال مع الاستعمار الفرنسي للجزائر، فقد خرجت الكثير من الأصوات الفرنسية المعارضة للاحتلال الفرنسي للجزائر، وتحوّل بعضها إلى مناصرةِ الثورة الجزائرية ضد فرنسا، ومن بين هؤلاء الفيلسوف الفرنسي فرانسيس جونسون.
كان جونسون في بداية علاقته بالجزائر مجنداً في صفوف الجيش الفرنسي، قبل أن يُفجع بما رأى من مجازر بحق الجزائريين، ليتحوّل إلى أبرز الداعمين للثورة الجزائرية، ويُحكم عليه بالسجن 10 سنوات.
فرانسيس جونسون.. من التجنيد في صفوف الجيش إلى دعم الثورة الجزائرية
وُلد فرانسيس جونسون في السابع من يوليو/تموز 1922، بمدينة بوردو الفرنسية، ودرس تخصص آداب وفلسفة، حيث حصل على الإجازة في الآداب ودبلوم الدراسات العليا في الفلسفة.
خلال الحرب العالمية الثانية، هاجر فرانسيس جونسون إلى إسبانيا، وذلك تجنباً لوحشية الحرب وهمجيتها، وهناك انضمّ إلى"الجبهة الشعبية" مثلما فعل بعض المثقفين الفرنسيين، ليجد نفسه مُعتقلاً في "ميرا ند دي إبرو"، أشهر المعتقلات الفرانكفونية، قبل أن يحوّل إلى سجن "مولينا دي كارنتزا" الإسباني، وخلال تلك الفترة تأثرت حياته النفسية والصحية بسبب ظروف الاعتقال.
في سنة 1943 أُفرج عن فرانسيس جونسون، واختار التوجه إلى الجزائر، حيث أقام هناك لمدة سنة كاملة، خلال تلك الفترة عمل جونسون في الجيش الفرنسي، مسؤولاً في المديرية العامة للعتاد العسكري، بالقرب من الجزائر العاصمة، كما عُين أيضاً مسؤولاً عن مخازن الذخيرة بمدينة وهران.
وخلال تلك الفترة اكتشف الوجه الحقيقي للاحتلال الفرنسي، فقد صادف تواجده بالجزائر أبشع المجازر التي ارتكبتها فرنسا ضد الجزائريين، خصوصاً مجازر 8 مايو/أيار 1945، التي قتلت فيها فرنسا زهاء 45 ألف جزائري في ظرف أسبوعين فقط.
في ديسمبر/كانون الأوّل 1944، التحق فرانسيس جونسون بجبهة الحرب في مقاطعة الألزاس الفرنسية، وهناك بدأ العمل لصالح القضية الجزائرية، حين أطلق أوّل تحذير للفرنسيين، بأنّ جبهة الجزائر ستشتعل لا محالة.
في أغسطس/آب 1945، سُرح جونسون من الخدمة العسكرية برتبة ملازم احتياطي، وقد أُصيب بداء السل الخطير سنة 1946.
استغل جونسون وجوده بفرنسا من أجل عقد صداقة مع الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، وحاول جونسون أن يميل مواقف الحزب الشيوعي باتجاه دعم الجزائريين لكنه فشل.
خلال فترة وجوده بفرنسا، تعرّف جونسون على السيدة كوليت، وتزوجها في يونيو/حزيران 1948، وكان الفيلسوف الشهير جون بول سارتر شاهداً على ذلك الزفاف.
سافر فرانسيس جونسون رفقة زوجته كوليت إلى الجزائر مرة أخرى، وفي الجزائر أعطى دروساً عن الفلسفة السارترية؛ نسبة إلى جون بول سارتر، وعمل كممثل في إعلانات الإشهار للتبغ، كما أتيحت له فرصة لقاء شخصيات جزائرية قيادية، مثل فرحات عباس، بينما التقت زوجته بعبان رمضان، أحد قادة جبهة التحرير الوطني.
عاد جونسون مجدداً إلى فرنسا في أواخر سنة 1949، وقام بنشر سلسلة مقالات في مجلة اسبريت، انتقد فيها مظاهر العنصرية الاستعمارية، وفي شهر يونيو/حزيران 1952 أسند له سارتر إدارة تحرير مجلة الأزمنة الحديثة، التي نشر فيها مقالاً انتقد فيه قطبي المنطق الاستعماري، وهما: "الاستغلال الرأسمالي" و"الاستهتار العنصري"، وذكر الحالة الجزائرية.
كانت مواقف جونسون ضد احتلال الجزائر تتعاظم يوماً بعد يوم، حتى جاءت اللحظة الحاسمة التي أعلن فيها فرانسيس جونسون أنّه صديقٌ للثورة الجزائرية، التي اندلعت في فاتح نوفمبر/تشرين الثاني 1954.
ففي سنة 1957 ألّف جونسون مع زوجته كتاب "الجزائر خارج القانون"، وهو عبارة عن كتاب يؤيد فيه جونسون شرعية كفاح جبهة التحرير الوطني ضد دولة الاستعمار الفرنسي.
تناول جونسون في كتابه مواقفه الصريحة، ومساندته القاطعة للشعب الجزائري وللثورة الجزائرية بقوله: "أدافع عن القيم التي تنكّرت لها فرنسا، ونشاطي هو تعبير عن التزام سياسي واع تجاه البربرية الكولونيالية الفرنسية ضد الشعب الجزائري، وعن التزام بتعرية تناقضات هذا النظام الاستعماري، الذي يمس في درجة قمعه حتى الفرنسيين أنفسهم".
لم يتوقف نشاط فرانسيس الفكري ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر عند كتاب "الجزائر خارج القانون"، بل أضاف له كتاباً ثانياً بعنوان "من أجل الحقيقة"، شرح فيه خلفيات مواقفه من القضية الجزائرية، وسعى من خلاله إلى تحطيم جدار الصمت المضروب على الممارسات الإجرامية للجيش الفرنسي في الجزائر.
حَمَلة الحقائب.. حين أسّس فرانسيس جونسون قاعدة خلفية للثورة الجزائرية بأوروبا
لم يكتفِ فرانسيس جونسون بإعلان موقفه من الاستعمار وتأييده للكفاح المسلح للشعب الجزائري، بل تعدّاه إلى دعم هذا الكفاح بكل ما يستطيع، وذلك من خلال تأسيسه شبكةَ جونسون، أو ما تسمى بـ"حملة الحقائب" سنة 1957، وهي شبكة دعم في فرنسا وأوروبا، خدمةً للقضية الجزائرية ولكفاح الشعب الجزائري.
بلغ عدد المجندين في شبكة جونسون ما بين ألفين و3 آلاف عنصر، تتراوح بين 20 و50 سنة، وكانت مهمتهم الأساسية توفير الدعم المالي واللوجيستي للثورة التحريرية.
ومن أهم أعضاء الشبكة: جاك بارتليت، المكلف باستقبال الفارّين من الجيش الفرنسي، وجون ماري جوق، الصحفي الذي كان يؤمّن الحماية والتموين للجنود الفرنسيين المعارضين للحرب، وإتيان بالو، أستاذ الفلسفة ومن أوائل الناشطين، وغوبار بانيو أستاذ في التاريخ، الذي شارك في انتفاضة الجنود الفرنسيين ضد الإدارة الاستعمارية في الجزائر، وسيمون بولمان، الذي اختلف مع قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي، وانضم إلى الحكومة الجزائرية المؤقتة في تونس، وميشيل رايتس، المكلف بنقل الأسلحة إلى المغرب.
عملت تلك الشبكة على تهريب القادة الجزائريين من فرنسا إلى الجزائر، وعلى تزوير جوازات سفر لقادة جبهة التحرير، وتعدت وظيفتها إلى توفير الأسلحة وتهريبها من أوروبا إلى الجزائر.
وفي كتابه "الثورة الجزائرية: المشكلات والاستشراف" قال جونسون: "نعم، فالأسلحة الممولة قد تكون مصوبة لطعن الجيش الفرنسي من الخلف".
في سنة 1960 اكتشفت المخابرات الفرنسية أمر جونسون وشبكته، ووجهت لهم تهمة الخيانة، وحُكم على أغلبهم بـ10 سنوات سجناً، بمن فيهم جونسون، الذين كان فارّاً، ثم عُفي عنه سنة 1966. وبعدها كلفه أندري مالرو بتأسيس دار الثقافة تحت إشرافه من سنة 1967 وحتى 1971.
توفي الفيلسوف والمدافع عن القضية الجزائرية فرانسيس جونسون في الثالث من أغسطس/آب 2009، عن عمر ناهز 87 عاماً في بوردو بفرنسا، وأرسلت الرئاسة الجزائرية برقية عزاء لعائلته بعد ثلاثة أيام من رحيله.