يرتبط تاريخ فرنسا الاستعماري للقارة الإفريقية، بالعديد من المآسي والآلام، ومن ذلك مدينة الدار البيضاء المغربية، التي تحتفظ بماضٍ أسود مع هذا الاحتلال، والذي ارتكب سنة 1907، إحدى أبشع المجازر، حين حوّل مدينة الدار البيضاء إلى مدينة أشباح يسكنها الموتى.
قتلت فرنسا في مجزرة الدار البيضاء، خمس سكان المدينة، وقامت بتدمير المدينة على رؤوس ساكنيها، بعد أن عبّر سكانها عن امتعاضهم من مخطط فرنسي للسيطرة على ميناء الدار البيضاء، فكانت تلك المجزرة بمثابة البوابة التي احتلت من خلالها فرنسا المغرب سنة 1912.
قبل مجزرة الدار البيضاء.. القوات الفرنسية احتلت مدينة وجدة بدون قتال!
بدأ الاهتمام الفرنسي بوضع موطئ قدم له بالمغرب، مع مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي انعقد سنة 1906، والذي بموجبه تمّ تقرير مصير المغرب كمستعمرة أوروبية تقتسمها فرنسا مع إسبانيا.
لم تمضِ سوى أشهر على ذلك المؤتمر، حتى بدأت القوات الفرنسية بالزحف غرباً باتجاه الأراضي المغربية، فكانت مدينة وجدة أولى المدن التي تسقط في يد الإحتلال الفرنسي.
في صبيحة يوم الجمعة 29 مارس/آذار 1907، دخلت القوات الفرنسية بقيادة الجنرال ليوطي إلى مدينة وجدة دون مقاومة تذكر.
وتذكر الباحثة مارية دادي أستاذة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة وجدة، في مقالة بحثية بعنوان "احتلال مدينتي وجدة والدار البيضاء سنة 1907: دراسة مقارنة" أنّ سبب عدم مقاومة سكان مدينة وجدة للاحتلال الفرنسي الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عانى منها سكان المدينة. إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي الذي جعل المدينة تستسلم للقوات الفرنسية دون مواجهة.
توسعة ميناء الدار البيضاء.. القطرة التي أفاضت غضب الشاوية
حفّز احتلال مدينة وجدة دون مقاومة أو خسائر الجيش الفرنسي للتقدم أكثر واحتلال مدن مغربية أخرى، فكانت محطته الثانية مدينة الدار البيضاء.
قبل ذلك، كان مؤتمر الجزيرة الخضراء- سابق الذكر- قد منح فرنسا سلطة التصرف في الموانئ المغربية بالتنسيق مع سلطات المخزن المغربي، فشرعت السلطات الفرنسية منذ ذلك الوقت في السيطرة على الموانئ المغربية وتنظيم حركة الملاحة بها.
كان ميناء الدار البيضاء، أحد الموانئ التي سيطر عليها الجيش الفرنسي، وشرع في تنظيم حركة الملاحة به، ولحيوية الميناء وموقعه الاستراتيجي، بدأت السلطات الفرنسية في مشروع لتوسعة الميناء وتطويره، واختيرت شركة "la Compagnie Marocaine" لإنجاز المشروع.
في تلك الأثناء، كانت تسكن مدينة الدار البيضاء قبائل الشاوية العربية، التي سرعان ما بدأت تتحسس مصير مدينة وجدة يظهر في الأفق، وذلك بعد أن زادت مخاوف سكان الدار البيضاء، بنية الفرنسيين في احتلال مدينتهم كما احتلوا مدينة وجدة قبل أشهر.
بدأت قبائل الشاوية في إظهار امتعاضها من السيطرة الفرنسية على ميناء الدار البيضاء، ورفضها للتدخل الفرنسي في المغرب، وبرز هذا الامتعاض في شكل اعتداءات متتالية على الأجانب الفرنسيين الذين استوطنوا المدينة.
كانت أبرزها حادث مقتل تسعة عمال أوروبيين بالميناء في 30 يوليو/تموز 1907، الذي أعقبته انتفاضة سكان المدينة الذين سيطروا على الدار البيضاء وطردوا الممثل الفرنسي بها، كما طالبوا الجالية الفرنسية بالمدينة بمغادرتها.
استغلت السلطات الفرنسية هذه الأوضاع كذريعة لشن هجوم على الدار البيضاء واحتلالها وارتكاب أبشع مجزرة في تاريخ المدينة.
فرنسا تقتل خمس سكان الدار البيضاء في ثلاثة أيام!
بعد يوم واحد من تلك الأحداث، رست البارجة العسكرية الفرنسية الشهيرة جاليلي بميناء الدار البيضاء، وبعد أربعة أيام من ذلك، سارعت وزارة الخارجية الفرنسية إلى إرسال برقيات إلى الحكومات الأجنبية تخبرهم عزمها القيام بعملية عسكرية بمدينة الدار البيضاء من أجل إعادة الأمن والنظام، وضمان حماية الجاليات الأوروبية بها.
في الخامس من أغسطس/آب 1907، بدأت العملية العسكرية الفرنسية ضد مدينة الدار البيضاء، فسارعت البارجة "غاليلي" في قصف شوارع المدينة بكثافة، ثم وصلت بارجة أخرى تحمل اسم "دي شايا" التي تكفلت بقنبلة حي المناكير الشعبي، كما شارك القصف السفينة الحربية الإسبانية ألفارو دي بازان.
رافق عملية القصف البحري لمدينة الدار البيضاء والتي استمرت لثلاثة أيام دون انقطاع، إنزال بحري كبير، واجتاح 3 آلاف جندي فرنسي المدينة، مرتكبين أبشع المجازر بها.
خلال ثلاثة أيام فقط، قتلت القوات الفرنسية خمس سكان المدينة، فسقط 6 آلاف مغربي ضحية من أصل 30 ألف نسمة، هي عدد سكان المدينة قبل الهجوم، كما دمرت جميع أحياء المدينة، ولم ينج سوى الحي الأوروبي الذي كان يضم مقار السفارات والقنصليات الأوروبية بالمدينة.
لم تتوقف فرنسا عند الدار البيضاء، فسرعان ما واصلت حملاتها العسكرية على المدن المغربية في الفترة ما بين 1907 و1911، إلى غاية خضوع ملك المغرب مولاي عبد الحفيظ وتوقيعه على عقد الحماية مع فرنسا يوم 30 مارس/آذار 1912 ليسقط المغرب تحت الاحتلال الفرنسي حتى سنة 1956.