في يوم وفاته، قال عنه الإمام عبد الحميد بن باديس "لما عرفناه فقدناه"، وقال عنه الإمام البشير الإبراهيمي أيضاً "فقدنا بفقده ركناً من أركان العلم الصحيح، وعلماً من أعلام التاريخ الصحيح". هو العلامة الجزائري محمد بن أبي شنب، صاحب أوّل دكتوراه في الجزائر، وأحد أبرز علماء الجزائر الذين كانوا على قدر واسع من المعرفة باللغة والتاريخ والنقد.
فقد كان بن أبي شنب شاعراً أديباً، ناقداً، مؤرخاً ومحاضراً، كما أتقن لغاتٍ عديدة. فتكلَّم العربية، والفرنسية والإيطالية والألمانية والإسبانية والفارسية، وبعضاً من التركية واللاتينية. وسخّر قلمه لخدمة تاريخ بلاده فدوّن وحقّق العديد من الكتب والمخطوطات التاريخية، وسخّر لباسه التقليدي لمقاومة الاحتلال الفرنسي لبلاده.
من هو محمد ابن أبي شنب؟
نشأ في أسرة تعود جذورها إلى بلدة بورصة العثمانية، انتقل أبوه من إسطنبول أوائل القرن الـ18م. أمّا أمه فهي أيضاً من أصول عثمانية، وتنتمي إلى عائلة عريقة هي عائلة "باش تارزي أحمد" قائد "عرش ريغة" وهي إحدى القبائل الممتدة ما بين مدينتي مليانة والمدية.
يعرّف عن نفسه لمجلة المجمع العربي السوري بأنّه "العبد الحقير محمد بن العربي بن محمد بن أبي شنب"، ولد 26 من أكتوبر/تشرين الأول 1869 بمدينة المدية.
وبالرغم من مكانة عائلته ومحافظتها، لم يحفظ محمد بن أبي شنب في صغره إلّا قدراً يسيراً من القرآن الكريم، على عكس أقرانه من العائلات الجزائرية المحافظة، لينتقل سريعاً إلى التعليم الحكومي الفرنسي، حيث درس اللغة والعلوم الفرنسية بثانوية مدينته قبل أن ينتقل الى دار المعلمين الفرنسية ببوزريعة التي تخرّج فيها مجازاً بإجازة تعليم اللغة الفرنسية في المدارس الابتدائية بعد عام واحد فقط .
واصل محمد بن أبي شنب مسيرته العلمية والتحصيلية بتحصله على إجازة مدرسة الآداب العليا. وفي سنة 1901، انتقل إلى مدينة الجزائر ليلتحق بكلية الآداب بجامعة الجزائر طالباً ومدرساً، وكان من بين مستقبلي الداعية والمصلح المصري محمد عبده، في زيارته الشهيرة إلى الجزائر سنة 1903.
أوّل طالب يتحصل على الدكتوراه في الجزائر
لم تنقطع مسيرة تحصيل محمد بن أبي شنب للعلوم والدرجات يوماً، فبانتقاله إلى مدينة الجزائر، بدأت مرحلة ثانية من حياة أبي شنب العلمية، فقد شرع في حصد ثمار زرعه بالتأليف، فكتب سنة 1902 كتاب "تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب" و"شرح نظم مثلثات قطرب" وغيرها الكثير من المؤلفات والتحقيقات والترجمات.
في 15 نوفمبر 1903م، تزوج الشيخ بابنة الشيخ قدور بن محمود بن مصطفى، الإمام الثاني بالجامع الكبير، فرزق منها بخمسة ذكور وأربع إناث. وفي حوالي 1904م أسند إليه دراسة كتاب صحيح البخاري بجامع سفير بالعاصمة، وتمت ترقيته في عام 1908م إلى رتبة أستاذ محاضر بالجامعة.
وفي سنة 1920، انتخبه المجمع العلمي العربي بدمشق عضواً به، وفي سنة 1922 تحصل بن أبي شنب على شهادة الدكتوراه بالقسم الأدبي من كلية الآداب في جامعة الجزائر بدرجة "ممتاز"، وذلك بعد أن قدم إليها تأليفاً في حياة "أبي دلامة" شاعر بني العباس، وتأليفاً آخر في "الألفاظ التركية الفارسية البالية في الوطن الجزائري".
وفي سنة 1924، عُيّن ابن أبي شنب أستاذاً رسمياً بكلية الآداب الكبرى في الجزائر العاصمة، فكان الأستاذ الجزائري الوحيد وسط الأساتذة الأوروبيين، وذلك حسب ما ورد في ورقة بحثية للدكتور جمال حجيرة وهو مختص في الشريعة الإسلامية بجامعة باتنة بعنوان"العلامة محمد بن أبي شنب مسيرة علم وأخلاق".
ألف بن أبي شنب نحو خمسين كتاباً في تخصصات عدّة، فكتب في الأدب واللغة العربية "تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب" إضافة إلى كتاب "الأمثال العامية الدارجة في الجزائر وتونس والمغرب" من ثلاثة أجزاء، و"معجم بأسماء ما نشر في المغرب الأقصى من الكتب ونقدها " وكتاب "خرائد العقود في فرائد القيود".
وفي التاريخ كتب وحقّق العديد من الكتب والمخطوطات أبرزها "رحلة الورتلاني"، "الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية"، "طبقات علماء إفريقية لأبي العرب و الخشني" و"البستان في علماء تلمسان لابن مريم".
قاوم الاستعمار الفرنسي بلباسه!
يعيب الكثير من الجزائريين علي بن أبي شنب أنه لم يأخذ موقفاً سياسياً واضحاً من احتلال فرنسا لبلاده. غير أنّ المختصين يرون أنّ الدكتور بن أبي شنب قاوم المحتل الفرنسي بطريقته الخاصة، فقد كان ملازماً ومحافظاً على لباسه الجزائري العربي الأصيل في كل محطة من محطاته العلمية، سواء بالجزائر أو خارجها.
كما شارك في عدة مؤتمرات استشراقية، كالمؤتمر الذي انعقد بمدينة إكسفورد في بريطانيا، حيث ألقى محاضرة باللباس الجزائري وسط ذهول وإعجاب من الحاضرين.
وكان من بين من أصابهم الذهول المفكر السوري محمد كرد علي، الذي وصف المشهد في كتابه "المعاصرون" بقوله "شهدته يخطب بالفرنسية في مؤتمر المستشرقين وهو بلباسه الوطني، عمامة صفراء ضخمة ، وزنار عريض، وسراويل مسترسلة، ومعطف من صـنع بلاده ، فأخذت بسحر بيانه واتساعه في بحثه، وظننتني أستمع إلى عالم من أكبر علماء فرنسا وأدبائها في روح عربي وثقافة إسلامية، أو عالماً من علماء السلف…".
وبالرغم من الجهود العلمية الكبيرة التي بذلها الدكتور محمد بن أبي شنب، والآثار التي تركها، فإنه بقي مجهولاً لدى فئات واسعة من الجزائريين، ولم يكن معروفاً إلا عند بعض النخب. ولعل المؤرخ والفقيه الراحل عبد الرحمن الجيلالي، كان أول من حاول إخراجه إلى النور بعد ليل الاستعمار الذي عاش فيه، عندما ألّف بشأنه كتاباً بعنوان "محمد بن أبي شنب وآثاره" الذي صدر في الجزائر سنة 1983، حيث تناول فيه جوانب من حياته وسلط الأضواء على كتاباته المتنوعة.
توفي الدكتور محمد بن أبي شنب سنة 1929 م، عن عمر ناهز 60 سنة إثر مرض أدخله مستشفى "مصطفى باشا" بالجزائر العاصمة، ووري الثرى بمقبرة سيدي عبد الرحمان الثعالبي بالجزائر العاصمة.