تسبب الجفاف وندرة المياه في عدة أزمات خلال فترات مختلفة من الزمن حول العالم، راح ضحيتها عدد كبير من الناس جوعاً وعطشاً.
هذا ما حصل في المغرب خلال سنتي 1944 و1945، عندما ضرب الجفاف البلاد، بعد انقطاع الأمطار وجفاف الآبار والأنهار، إضافة إلى استحواذ الحماية الفرنسية على الأراضي المغربية، والاستفادة من خيراتها لصالح أبناء بلادهم، دون المغاربة، فضربتهم المجاعة، وسُميت هذه الفترة العصيبة على أهالي شمال غرب إفريقيا بـ"عام البون" أو "عام الجوع".
جفاف واستعمار.. "عام البون"
بعد أن استعمرت ألمانيا جزءاً كبيراً من الأراضي الفرنسية، وتضررت هذه الأخيرة من آثار الاستعمار النازي، خلال الحرب العالمية الثانية، دخلت فرنسا المغرب مستعمرة بدورها أراضي شمال غرب إفريقيا، وشرعت في الاستفادة مما تنتجه من مواد غذائية، ومعدنية، وبحرية، وحيوانية، وصناعية، وذلك من أجل تغطية حاجيات مواطني بلدها الذين كانوا في فترة حرب.
في سنة 1944، ضرب الجفاف المغرب، ولم تجُد السماء على أهالي المغرب ولا حتى بقطرة ماء، الأمر الذي تسبب في ندرة المواد الغذائية، التي كان يستفيد منها المستعمر قبل المغاربة، خصوصاً أن نظام الحماية حرم أصحاب الأراضي من العمل فيها، وعوّضهم بمزارعين وعمال فرنسيين، من أجل إدارة الإنتاج والتحكم في عملية توزيعه.
ومن أجل الحصول على القدر الكافي من الموارد التي تنتجها البلاد، قررت فرنسا تحديد قدر معين من المواد الأساسية التي ينتجها المغرب للمغاربة، من خلال حصولهم على إيصالات من طرف البلديات، عليها لائحة بالمواد المسموح بشرائها، من زيت، وسكر، ودقيق، ولحوم، ومواد نظافة، وأقمشة.
ومن هنا جاءت تسمية المجاعة التي ضربت المغرب بـ"عام البون"؛ لأن ترجمة كلمة "بون" من الفرنسية إلى العربية تعني "إيصال".
وكانت الحماية الفرنسية قد قسمت الاستفادات من "البون" لنوعين، من خلال تقديم كمية غذاء أقل لكل من تطوع لمقاومة الاستعمار، فيما كان البقية يحصلون على كمية أكبر مقارنة بغيرهم.
الحلم خبزة واحدة والواقع جراد
بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد ونظام "البون" الذي فرضته الحماية الفرنسية من أجل مواجهة أزمة الغذاء في بلدها تأثراً بالحرب العالمية الثانية، بدأت مظاهر المجاعة تظهر على المغاربة، خاصة أن القدر البسيط من الأكل الذي كانوا يحصلون عليه من خلال "البون"، لم يكن قادراً على سدّ جوعهم.
فأصاب سكان المغرب عدة أمراض سببها نقص الجوع وفقدان الجسم قوته بسبب غياب العناصر الغذائية الأساسية التي تحافظ على سلامته، فكان حلم المغربي خبزة واحدة في اليوم، لكن الحصول عليها كان صعب المنال، فكلما تقدمت الأيام والشهور، أصبح الحصول على الطعام صعباً حتى بـ"البون"، الذي كان يتم تقليل كمية المواد الغذائية المقدمة من خلاله كلما اشتد الجفاف.
خلال فترة الصراع من أجل العيش، اضطر المغاربة لأكل الجراد، الذي اجتاح البلاد من جنوبها إلى شمالها في السنة نفسها، وأتى على 100 ألف هكتار (1000 كيلو متر) من القمح الذي كانت تنتجه الأراضي الفلاحية المغربية، كما كانوا يأكلون كل ما تنتجه الأرض من حشيش غير صالح للأكل، من أجل إسكات بطونهم الجائعة.
ليس الجراد فقط، بل وصل بهم الحال لأكل لحوم حيوانات غير صالحة للأكل، كلحم الحمير والكلاب والقطط، حتى إن البعض أكل من لحم الموتى، الذين غادروا الحياة جوعاً وعطشاً، خصوصاً أن الماشية كذلك لم تسلم من الجفاف، وأصيبت بمرض يسمى "جدري الغنم".
لم يكن الأكل والشرب فقط ما ينقص المغاربة؛ إذ إن غياب مواد النظافة وانتشار الأوساخ، جعل أمراضاً خطيرة تنتشر بين الناس، من بينها السل والزهري والرمد.
كما كان البعض ينبش في القبور ويستعين بأكفان الموتى من أجل ستر عورته، وحماية جسده من البرد والحر، حسب ما ذكره تقرير جريدة "هسبريس" المغربية.
50 ألف شخص قتلهم الجوع والعطش
كان الحصول على القهوة أو الصابون يعتبر من مظاهر الترف والغنى خلال "عام البون"، حيث أصبح المغاربة يحاولون اختراع أكلات من مواد لم تكن لتدخل قائمة طعامهم لولا الجوع، كان أشهرَ هذه الأكلات خبزٌ تم تحضيره من دقيق مصنوع من جذور نبتة "يرنة"، أو الحبق.
ومع كل المحاولات من أجل البقاء، إلا أن الموت خطف أرواحاً كثيرة في تلك الفترة التي دامت سنتي 1944 و1945، حسب ما نشره موقع "أنفاس بريس" المغربي، وصل عددهم 50 ألف شخص أغلبهم أطفال، حسب تقارير كانت قد نشرتها إدارة الصحة العمومية في المغرب، لكن العدد المصرح به كان أقل من عدد الأشخاص الذين ماتوا، خصوصاً أنه لم يتم إحصاء من كانوا يعيشون في البوادي، فبعضهم مات في الشوارع، وبعضهم وجدوا في منازلهم جثثاً ماتوا وهم ينتظرون من يطعمهم، بعد أن فقدت أجسامهم القوة للخروج والبحث عن لقمة عيش.
على الرغم من الزخات المطرية التي نزلت بعد الجفاف القاتل الذي ضرب المغرب، إلا أن آثار المجاعة استمرت بضع سنوات بعد نهاية "عام البون"، بسبب الأمراض التي تفشت بين المغاربة بسبب الجوع وقلة النظافة، فمات حوالي 8700 شخص بمرض السل، وارتفع عدد المصابين بداء الزهري مقارنة بالسنة التي عانى فيها المغاربة الجوع حتى الموت.